رحيل فارس المنبر.. أحمد عمر هاشم إمام الوسطية وصوت الأزهر العاقل

في فجرٍ هادئ حمل أنين الفقد، غاب عن دنيانا الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، عن عمر ناهز 84 عامًا، بعد مسيرة امتدت لأكثر من نصف قرن حمل فيها راية الوسطية، ووقف شامخًا في وجه التطرف، مدافعًا عن نقاء الإسلام ورحمته وإنسانيته.
وُلد الراحل في السادس من فبراير عام 1941 بقرية بني عامر التابعة لمركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، في بيتٍ عُرف بالعلم والنسب الطيب الممتد إلى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما. وفي ساحته الهاشمية، بين حلقات الذكر ومجالس العلماء، تفتّحت مدارك الطفل الصغير الذي حفظ القرآن الكريم كاملًا وهو في العاشرة من عمره، وألقى أول خطبةٍ له في الحادية عشرة، لتبدأ ملامح العالم والخطيب تتشكل مبكرًا.
اختار طريق الأزهر، فكان من تلامذته النجباء وخريجيه المخلصين. تخرج في كلية أصول الدين عام 1961، وتدرج في مدارج العلم حتى نال الدكتوراه، ليصبح أستاذًا للحديث وعلومه، ثم عميدًا لكلية أصول الدين بالزقازيق عام 1987، قبل أن يتولى رئاسة جامعة الأزهر عام 1995.
عرفه طلابه أبًا قبل أن يكون أستاذًا؛ يُصغي إليهم بتواضع العالم، ويُعلّمهم أن الرحمة زاد العلم، وأن الدعوة الحقة لا تُبنى بالصوت العالي بل بالحكمة والموعظة الحسنة
من فوق المنابر، كان صوته ينساب كضوءٍ دافئ يذكّر الناس بأن الدين رحمة لا قسوة، وعقل لا غلوّ فيه. كل خطبة له كانت مزيجًا من البيان والشعر والإيمان، كثيرًا ما ختمها بأبياتٍ من ديوانه «نسمات إيمانية» التي عبّر فيها عن شوقه للنبي صلى الله عليه وسلم وحبّه للإنسانية كلها.
لم يكن مجرد خطيبٍ أو أكاديمي، بل سفيرًا للفكر الأزهري في العالم، جاب بلدانًا عربية وإسلامية وغربية، من السعودية والمغرب والجزائر إلى ماليزيا وألمانيا وفرنسا وأمريكا، يشرح فيها جوهر الإسلام كدين حوارٍ وعدلٍ ورحمة. وكان دائم القول إن “الأزهر ليس مكانًا، بل رسالة تمتد إلى كل بقاع الأرض”.
شغل العديد من المواقع الفكرية والعلمية، فكان عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والمجلس الأعلى للثقافة، كما كان له حضور تحت قبة البرلمان، نائبًا يدافع عن وحدة الأمة ووسطية الخطاب الديني.
وفي وجه دعاة الغلو، كان صوته عاقلًا، حجته رصينة، وابتسامته سلاحه الهادئ ضد التطرف.
ترك وراءه تراثًا علميًا زاخرًا تجاوز الأربعين مؤلفًا، من أبرزها: الإسلام وبناء الشخصية، من هدى السنة النبوية، الشفاعة في ضوء الكتاب والسنة، وقصص السنة. كما أشرف على إعداد موسوعة حديثية معاصرة، جمعت الأحاديث النبوية وفق تصنيف فقهي وموضوعي، لتكون زادًا للباحثين وطلاب العلم.
نال خلال مسيرته جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1992، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وفي يناير 2023 منحته نقابة الأشراف لقب «شيخ الشرف»، تقديرًا لمكانته العلمية ونسبه الهاشمي الشريف.
ورغم كل هذه الألقاب، ظل زاهدًا في الأضواء، يفضّل الجلوس بين تلاميذه على المنصات الرسمية، محتفظًا بتواضعه وبساطته التي لم تفارقه يومًا.
كان الإعلام منبرًا آخر لصوته المعتدل، فشارك في برامج وندوات أعادت الثقة في الخطاب الديني الوسطي، وردّ على الفكر المتشدد بالحكمة والابتسامة، لا بالصدام.
وفي صباح اليوم، أعلنت صفحته الرسمية على «فيسبوك» رحيله، لتعمّ موجة من الحزن أرجاء البلاد. وستُقام صلاة الجنازة بعد الظهر في الجامع الأزهر، قبل أن يُوارى جثمانه الثرى في الساحة الهاشمية بقرية بني عامر، حيث بدأ رحلته مع القرآن، وهناك تنتهي رحلة إمامٍ حمل نور العلم في زمنٍ علا فيه صوت الظلام.
رحم الله الإمام الهادئ الذي عاش للعلم والدعوة، ورحل في صمتٍ يليق بالكبار.






