صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (54)
الفضل بن الربيع يهدد البرامكة
كان معاوية رضي الله عنه أول الملوك، وكان سياسيا حكيما حليما وله جمل وكلمات معبرة، نتوقف عند واحدة منها في هذه الحلقات الخاصة بنكبة البرامكة لأنها موافقة للحقيقة.
قال معاوية لرجل :احذر السلطان فإنه يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد.
وقد أصاب معاوية كبد الحقيقة بهذه الكلمات القصيرة البليغة.. فما أسرع غضب صاحب السلطة حتي لتشعر وكأنك تعامل صبيا من فرط هذا الغضب السريع، ثم تأتي بطشة السلطان التي تختلف عن أي بطشة أخري لأنه ربما يكون فيها الهلاك خاصة أنه يملك كل أسباب القوة والنفوذ.
فالسلطة نور ونار .. نور في الرضا، فتمنح القريب منها المنصب والمال والجاه والمكان والمكانة .. ونار في السخط فتحول حياة المغضوب عليهم إلي جحيم، بل وتزهق أرواحهم أيضا إذا لزم الأمر.
كان البرامكة عصب دولة الرشيد، ولم لا وعميدهم يحيي بن خالد لعب الدور الأبرز في تولية الرشيد عندما أنقذه من الخلع علي يد أخيه موسي الهادي، وجازف يحيي بحياته وعرضها للخطر والهلاك بعد أن دخل في مرمي غضب الخليفة موسي الهادي الذي كاد أن يقتل يحيي بالفعل لولا أن عاجلته المنية ومات مبكرا.
ولم ينس هارون الرشيد هذا الموقف ليحيي خاصة أنه تربي أيضا في حجره فكان يناديه يا أبي، وكان الفضل الابن الأكبر ليحيي أخا للرشيد من الرضاعة، أما جعفر الابن الثاني فهو الصديق والرفيق واللصيق، وكان يحيي ببعد نظره يتخوف من هذه العلاقة الحميمية التي تجمع بين الرشيد وابنه جعفر.
وكاد الرشيد أن يصبح أسير البرامكة بعد أن مكنهم من كل مفاصل الدولة، فالأب هو الوزير الذي لا تقضي الأمور بدون خاتمه، والفضل الوالي علي خراسان وما حولها، وجعفر الوالي علي الشام وهناك من ينوب عنه لأنه لايفارق الرشيد في حله وترحاله ولا يستغني عنه في جد أو هزل.
وقد أحسن يحيي تربية أبنائه فكانوا فصحاء بلغاء درسوا اللغة والفقه علي أيدي رموز زمانهم، لذلك كان أبناء يحيي البرمكي رجال دولة من الطراز الأول، كما أن أخبارهم في السخاء والكرم تملأ بطون كتب التاريخ، فكانت لهم الأيادي البيضاء علي القاصي والداني .. القريب والبعيد.
لكن جرت العادة ألا يكون هناك وفاق بين أجنحة السلطة .. فكل جناح يريد أن يكون الأقرب للخليفة أو السلطان أو الحاكم أو الملك علي حساب الجناح الآخر، ويصل الصدام في أحيان كثيرة إلي حد العداء.
وكان هناك رجل داهية ماكر يتربص بهم الدوائر، هو الفضل بن الربيع حاجب الرشيد، ولم يكن بالطبع مستريحا للنفوذ الهائل الذي تحظي به أسرة البرامكة في دولة الرشيد، فكل كبار رجالات الدولة يخطبون ود البرامكة ويطلبون عظائم الأمور منهم لأن كلمتهم مسموعة عند هارون الرشيد وطلباتهم تجد التلبية السريعة من الخليفة، في حين أن الفضل بن الربيع في موقف ضعيف، لكن مكره وخبثه يجعلانه أخطر علي عدوه من جيش ذي عدة وعتاد.
وكان يحيي يتخوف من الفضل ويعرف نواياه وما يكنه للبرامكة من حقد وبغض وكراهية، لكن ابنه جعفر لم يكن يبالي بالفضل بل اتهمه ذات مرة بأنه مجهول النسب، كما نجح الفضل في استمالة زبيدة زوجة الرشيد ونجح أيضا في كسب أمراء كثيرين ومؤثرين من البيت العباسي لصفه، خاصة بعد أن أصبح هناك وليان للعهد محمد الأمين ثم عبدالله المأمون، فكان الأمراء العباسيون منحازين لزبيدة وابنها الأمين، في حين أن البرامكة كانوا سندا للمأمون لأنه ابن جارية فارسية، والبرامكة أصلهم من الفرس فأصبحوا يتعاملون علي أنهم أخوال المأمون وأحرص الناس علي مصلحته.
أحيانا غرور القوة ينسيك الحذر ومعرفة قدر عدوك ومدي استطاعته أن يوجه لك ضربات قاسية ومؤلمة وربما قاضية، كما أن طول المدة التي قضتها أسرة البرامكة في السلطة جعلتها تتحكم في مفاصل كثيرة في الدولة، مما جعل الرشيد يفطن لهذا الأمر أخيرا، ويبدأ في التحسب للعواقب خاصة بعد أن بدت له أمور مزعجة، فضلا عن محاولات الفضل بن الربيع الدائمة لتشويه سمعة البرامكة وتصوير أي خطأ صغير علي أنه جريمة كبري تستحق تدخل الرشيد والتعامل معها بمنتهي القوة والعنف، حفاظا علي استقرار ملكه وملك أبنائه من بعده.
ونتحدث في الحلقة المقبلة إن شاء الله عن الأمور التي بدأت تزعج الرشيد من البرامكة، والسموم التي كان يبثها الفضل بن الربيع ليهز مكانتهم عند الخليفة وكان هذا الرجل الماكر يسخر دهاءه كله في الشر والأذي وفقا لكتابات المؤرخين.
وسنري في الحلقات المقبلة إن شاء الله كم كان هذا الرجل _عامله الله بما يستحق _وبالا علي البرامكة بل وبالا علي الرشيد نفسه، وكان من أهم اسباب الشقاق والحرب بين الأمين والمأمون.