صلاح رشاد .. يكتب: عندما تحكّم الفضل بن الربيع .. في دولة الرشيد!
كان الفضل بن الربيع حاجب هارون الرشيد أكبر الفائزين من نكبة البرامكة بعد أن أصبح الرجل القوي في دولة الخلافة، فقد تم تصعيده لمنصب الوزير بدلا من يحيي بن خالد البرمكي ليجمع بين الوزارة والحجابة ويحقق حلمه الذي استخدم من أجله كل الوسائل غير الشريفة من دسائس ومؤامرات، وهذا النوع المخيف من البشر لا يهمه أعداد الضحايا بقدر ما تهمه السلطة والجلوس علي مقاعدها والتمكن منها.
الله أعلم إذا كان الرشيد قد ندم فعلا علي ما فعله بالبرامكة أم لا، لكن الإنسانية تقول إن بعضا من الندم يجب أن يكون قد تسلل إلي قلبه لأن أسرة البرامكة لم تكن مجرد أسرة تتحكم في مفاصل الدولة، فلو كانت كذلك فقط لما شعر الرشيد بأي لحظة ندم لأنه قد يلتمس لنفسه ألف عذر، فيقول إنهم كانوا شيعة ويتآمرون علي دولته، وأنه كان كالمحجور بينهم، لكنها أسرة عاش معها وتربي في حجرها، فيحيي بن خالد هو الذي ربي الرشيد، ولم يكن هارون يناديه إلا بأبي وتحدثنا عن الدور البطولي الذي لعبه يحيي للإبقاء علي الرشيد في ولاية العهد خلال عهد أخيه موسي الهادي الذي كان شغله الشاغل طوال فترة حكمه القصيرة الإطاحة بالرشيد.
كما أن أولاد يحيي كانوا من أقرب المقربين إلي قلب الرشيد، فالفضل الابن الأكبر ليحيي كان أخا للرشيد من الرضاعة وجعفر الإبن الثاني كان الصديق الصدوق الذي لا يفارقه في حله وترحاله، فهذه العلاقة الحميمية بين الرشيد والبرامكة استمرت 39 سنة هي عمر الرشيد حينما قضي عليهم، وهي مدة زمنية طويلة جدا تجعل الندم يتسلل إلي أي قلب مهما كان قاسيا أو متجبرا.
لكن هل كان البرامكة شيعة ؟
ربما كانوا كذلك ولا يضيرهم في شيء إذا كانوا يحافظون علي الدولة، كما أن التعاطف مع العلويين ليس دليلا علي التشيع لأن حب آل البيت من العلويين شيء فطري في كل نفس مسلمة، والبرامكة من أصل فارسي، وخراسان وما حولها كانت من أهم مدن الفرس.
والشعب الفارسي بطبعه كان يميل لبيت الحاكم أو الملك ويتعاطف معه، لذلك كان الخراسانيون متعاطفين مع العلويين من ذرية الحسنين الطاهرين رضوان الله عليهم وعلي أبيهم وأمهم، لأن ذرية الحسنين من آل بيت رسول الله صلي الله عليهم وسلم هي أقرب ذرية في آل البيت لقلب النبي المصطفي لأنهم أبناء ابنته العظيمة فاطمة رضي الله عنها والتي كان يهش لها صلي الله عليه وسلم ويناديها بأم أبيها.
نأتي للسؤال الأهم: هل كان البرامكة متآمرين علي الدولة ؟
المنطق والعقول يقولان لا، لأن البرامكة كانوا هم الدولة فكيف يتآمرون علي أنفسهم، كانت مفاصل الدولة في أيدي البرامكة فما الذي يدفعهم إلي التآمر علي دولة هم صانعو القرار فيها ؟!
طبعا هذا شيئ لا يستقيم مع العقل.
قد يقول قائل إنهم كانوا شيعة ويرغبون في نقل الخلافة للعلويين.
ونرد قائلين: لنفترض أنهم كانوا شيعة .. هل كانوا يضمنون أن يتحكموا في مفاصل الدولة إذا انتقلت السلطة للعلويين، وما الذي يجبرهم علي التآمر علي سلطة هي في أيديهم، من أجل سلطة لا يعلمون مصيرهم فيها وماذا ستفعل بهم إذا دانت لهم الأمور وسيطروا علي البلاد بيد من حديد.
إذن مصلحة البرامكة ومجدهم وعزهم كان في بقاء دولة بني العباس وليس في القضاء عليها.
كما أن التشيع إذا ما تعارض مع المصلحة الشخصية سيفضل الناس مصلحتهم، ونضرب مثالا علي ذلك بالدولة البويهية إحدي الدول التي سيطرت علي بغداد في زمن ضعف الخلافة العباسية الذي دام قرونا طويلة.
كانت هذه الدولة شيعية متطرفة وأحد ملوكها وهو معز الدولة بن بويه أراد ان يزيل الخلافة العباسية وينقل الخلافة للعلويين فاستشار أحد رجالاته المقربين فقال له كلاما له مغزي كبير جدا .. قال له: إنك الآن في خلافة تعلم ويعلم جنودك وأتباعك أنها مغتصبة للسلطة ولو أمرت جنديا من جنودك بقتل الخليفة العباسي لنفذ ذلك علي الفور، أما إذا نقلت الخلافة إلي العلويين فإنك تعلم ويعلم جنودك أنها خلافة شرعية وصاحبة السلطة الحقيقية ووقتها لو أراد الخليفة العلوي أن يقتلك وطلب ذلك من اي جندي من جنودك لنفذ ذلك علي الفور.
فتراجع معز الدولة بن بويه عن الفكرة مفضلا خلافة غير مقتنع بها لكنه الحاكم بأمره فيها، علي خلافة قد تتسبب في ضياع ملكه وإزهاق روحه.
فمصلحة الملوك وأصحاب السلطة فوق كل الاعتبارات مهما كانت.
وإننا نتساءل: هل خسر الرشيد شيئا بعد نكبة البرامكة ؟
نعم خسر كثيرا .. ربما لا تكون الخسارة قد ظهرت بعد القضاء علي البرامكة مباشرة، فلم يعش بعدها سوي 6 سنوات فقط. لكن الخسائر الفادحة بدأت تظهر وتتضح معالمها بعد موت الرشيد في وجود الداهية الشرير الفضل بن الربيع الذي قلنا إنه الفائز الأكبر من نكبة البرامكة بعد أن أصبح الرجل القوي في دولة بني العباس.
ونكمل الحديث في الحلقة المقبلة إن شاء الله .