صلاح رشاد .. يكتب: عودة الأمين .. ومقتل الحسين
خدمة جليلة قدمها أسد الحربي أحد الفرسان البواسل لمحمد الأمين فدخل عليه، وكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة، فنظر الأمين إلى قوم ليس عليهم لباس الحرب والجند، ولا عليهم سلاح، فأمرهم فأخذوا من السلاح الذي في الخزائن حاجتهم ووعدهم ومناهم، وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا من حرير وغير ذلك.
(كان هذا التصرف فيه رعونة كبيرة من الأمين لأنه منح سلاحا لمن أفسدوا في بغداد بعد ذلك، وكانت هذه أبرز عيوب الأمين انه ينظر تحت قدميه ولا يفكر في عواقب الأمور).
ماذا فعل الأمين بالحسين بن علي الذي أهانه وعزله ؟
أتي به فلامه على خلافه، وقال له: ألم أقدم أباك على الناس، وأوله أعنة الخيل وأملأ يده من الأموال، وأشرف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد! قَالَ: بلى، قَالَ: فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس علي، وتندبهم إلى قتالي! قَالَ: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله قَالَ: فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك، ومن قتل من أهل بيتك، وأمره بالمسير إلى حلوان (مدينة بغرب إيران )، وولاه ما وراء بابه.
(أفرط الأمين في التساهل مع الحسين بن علي فبدلا من قتله أو علي الأقل سجنه، تعامل معه بمنتهي اللطف فعفا عنه، ولم يكتف بذلك بل رفع منزلته وولاه الحجابة، وإنها لمأساة بأن يصبح من خلع الأمين حاجبا له !!)
ماذا كان رد جميل الحسين بن علي للأمين ؟
يجيب عن ذلك عثمان بْن سعيد الطائي أحد المقربين من الحسين، قَالَ: كانت لي من الحسين بْن علي منزلة، فلما رضي عنه الأمين، ورد إليه قيادته ومنزلته، عبرت إليه مع المهنئين، فوجدته واقفا بباب الجسر، فهنأته ودعوت له، ثم قلت له:
إنك قد أصبحت سيد العسكرين، وثقة أمير المؤمنين، فاشكر العفو والإقالة، ثم داعبته ومازحته، فضحك، ثم قَالَ: ما أحرصني على تحقيق أهداف الخليفة إن ساعدني عمر، وأيدت بفتح ونصر ثم وقف على باب الجسر، وهرب في نفر من خدمه ومواليه، فنادى الأمين في الناس، فركبوا في طلبه، فأدركوه بمسجد كوثر، فلما بصر بالخيل نزل وقيد فرسه، وصلى ركعتين وتحرم، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات يهزمهم ويقتل فيهم ثم إن فرسه عثر به وسقط، وابتدره الناس طعنا وضربا وأخذوا رأسه، لتنتهي حياته بالقتل وقطع الرأس مثل أبيه.
استراح الأمين من أسرة علي بن عيسي التي رفعها فخذلته، ولكنه لم يسترح من طاهر بن الحسين، ذلك الرجل الذي بدأ طيفه يطارد الأمين في حله وترحاله فيفسد عليه أيامه ولياليه.
كان طاهر قد ترك حلوان (مدينة غرب إيران ) بعد قدوم الجيش الذي أرسله المأمون بقيادة هرثمة بن أعين، فسيطر هرثمة علي حلوان، وتوجه طاهر إلى الأهواز (مدينة تقع جنوب غرب إيران).
وكان يوجد بها محمد بْن يزيد المهلبي واليا عليها من جانب الأمين.
(محمد بن يزيد من ذرية المهلب بن أبي صفرة احد القواد البارعين في صدر الإسلام والذي تولي خراسان لعبد الله بن الزبير ثم عبد الملك بن مروان، وأبلي أحس البلاء في قتال الخوارج وكان وبالا عليهم ويعملون له ألف حساب، وكان محمد بن يزيد يتميز بخصال آبائه من جرأة وشجاعة ورفض الهرب واعتبار الفرار عارا ).
ودارت مناوشات بينه وبين بعض قواد طاهر، ثم بدأ الخناق يضيق عليه، فقال لأصحابه كما جاء في تاريخ الطبري: ما ترون؟ أطاول القوم القتال وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم علي؟ فو الله ما أرى أن أرجع إلى أمير المؤمنين أبدا، ولا أنصرف عن الأهواز.
فقالوا له: الرأي أن ترجع إلى الأهواز، فتتحصن بها وتغادى طاهرا القتال وتبعث الى البصره فتفرض بها الفروض، وتستجيش من قدرت عليه وتابعك من قومك، فقبل ما أشاروا عليه، فرجع حتى صار بسوق الأهواز وأمر طاهر قريش بْن شبل أن يتبعه، وأن يعاجله قبل أن يتحصن بسوق الأهواز، وأمر الحسن بْن علي المأموني والحسين بْن عمر الرستمي أن يسيرا بعقبه، فإن احتاج إلى معونتهما أعاناه ومضى قريش بْن شبل يتتبع محمد بْن يزيد، كلما ارتحل من قرية نزلها قريش، حتى صاروا إلى سوق الأهواز.
وسبق محمد بْن يزيد إلى المدينة فدخلها، واستند إلى العمران، فصيره وراء ظهره، وعبأ أصحابه، وعزم على مواقعتهم، ودعا بالأموال فصبت بين يديه، وقال لأصحابه: من أحب منكم الجائزة والمنزلة فليعرفني أثره، وأقبل قريش بْن شبل حتى صار قريبا منه، وقال لأصحابه: الزموا مواضعكم ومصافكم، وليكن أكثر ما قاتلتموهم وأنتم مريحون، فقاتلوهم بنشاط وقوة، فلم يبق أحد من أصحابه إلا جمع بين يديه ما قدر عليه من الحجارة، فلم يعبر إليهم محمد بْن يزيد، حتى أوهنوهم بالحجارة، وجرحوهم جراحات كثيرة بالنشاب، وعبرت طائفة من أصحاب محمد بْن يزيد، فأمر قريش أصحابه أن ينزلوا إليهم فنزلوا إليهم، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى رجعوا.
والتفت محمد بْن يزيد إلى نفر كانوا معه من مواليه (عبيده )، فقال: ما رأيكم؟ قالوا:
في ماذا؟ قَالَ: إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن من خذلانهم، ولا آمل رجعتهم، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي، حتى يقضي الله ما أحب، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف، فو الله لأن تبقوا أحب إلي من أن تهلكوا فقالوا: والله ما أنصفناك، أعتقتنا من الرق، ورفعتنا من الضعة، ثم أغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذه الحال، بل نتقدم أمامك ونموت تحت ركابك، فلعن الله الدنيا والعيش بعدك.
(درس في الوفاء لأصحاب الفضل)
ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم، وحملوا على أصحاب قريش حملة منكرة، فأكثروا فيهم القتل، وشدخوهم بالحجارة وغير ذلك، وانتهى بعض أصحاب طاهر إلى محمد بْن يزيد، فطعنه بالرمح فصرعه، وتبادروا إليه بالضرب والطعن حتى قتلوه.
(هذا نوع نبيل من القادة يفضل الموت في ميدان القتال علي العيش تحت ذل الفرار وعار الهزيمة، وكرر محمد بن يزيد ما فعله عبد الرحمن بن جبلة الأنباري الذي فضل أن يقتله طاهر علي أن يعود للأمين مهزوما).
وسقطت الأهواز في يدي طاهر ورجاله، وبدأ زحفه نحو العراق للقضاء علي دولة الأمين واستبدالها بدولة المأمون.
وهذا حديث الحلقات المقبلة إن شاء الله.