جمال منصور يكتب: الرسائل الخفية وراء اختيار السادس من أكتوبر وشرم الشيخ لمفاوضات إنهاء حرب غزة
في السياسة، لا شيء يُترك للصدفة، وحين تم اختيار يوم 6 أكتوبر موعدًا لبدء مفاوضات إنهاء الحرب على غزة في شرم الشيخ، لم يكن الأمر مجرد مصادفة زمنية أو إجرائية، بل كان صفعة رمزية في وجه الذاكرة الإسرائيلية، وطعنًا في غرورها التاريخي الذي لم يتعافَ بعد من جرح حرب أكتوبر 1973 — تلك الحرب التي كسرت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وأجبرت إسرائيل على الانسحاب من أرضٍ دخلتها ذات يوم بثقةٍ متغطرسة، لتخرج منها مذعورة تحت ضربات المصريين فى 6 ساعات.
اليوم، وإبان احتفالات المصريين بنصر أكتوبر، ووسط لافتات التهنئة بالنصر التى تغطى كل شبر بشرم الشيخ، يجلس الإسرائيليون على مائدة المفاوضات في أرضٍ كانوا قد وطِئوها يومًا بنشوة الاحتلال، فإذا بهم يعودون إليها منكسرين ومنبوذين تحت ضغط الدم الفلسطيني والرفض الدولي والضمير الإنساني. إن شرم الشيخ ليست مجرد منتجع سياحي أو مدينة السلام، بل هي بوابة الذاكرة العسكرية والسياسية المصرية؛ هى المكان الذي تحوّل فيه النصر إلى سلام، والكرامة إلى سياسة، والعَلم إلى رسالة.
اختيار 6 أكتوبر تحديدًا لبدء المفاوضات يحمل رمزية مزدوجة
فهو رقم الحرب والنصر والعبور، ورقم الصدمة والهزيمة في الوعي الإسرائيلي. 6 ساعات فقط كانت كافية لتغيير معادلات القوة في المنطقة آنذاك، وستكون جلسات مفاوضات اليوم – إن صدقت النوايا وأتمنى أن تستمر كل جلسة 6 ساعات – امتحانًا جديدًا للقوة الأخلاقية والسياسية لمصر في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية المتجددة تحت شعار “حق دفاع المجرم المغتصب عن النفس”.
الرقم “6” هنا ليس رقمًا جامدًا، بل رمزٌ دائري يعيد الزمن إلى بدايته: 6 أكتوبر كان يوم النصر،و 6 ساعات كانت فاصلة بين الكرامة والهزيمة، و 6 عقود من الصراع لم تنجح في محو آثار تلك اللحظة الفاصلة من الوعي الإسرائيلي. والآن، وتحديدا في السادس من أكتوبر، وعلى نفس الأرض يعود الاسرائليون ليجدوا تلك الارض التى كانت صحراء مغتصبة وقد تحولت إلى جنة، يعود الإسرائيليون إلى طاولة في مصر، لا ليفاوضوا على أرضٍ احتلوها، بل على أرضٍ لفظتهم ذات يوم ولقّنتهم درسًا في أن الأمن لا يُشترى بالقوة ولا يُبنى على الدم، وأن إسرائيل ليست كمصر حين رفعت شعار “ما أُخذَ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، وهذا الشعار الناصري يناسب صاحب الارض والحق، لا المغتصب لهما.
إن مفاوضات السادس من أكتوبر بشرم الشيخ بسيناء، ليست مجرد مفاوضات، بل جلسة نفسية جماعية في الذاكرة الإسرائيلية، فكل حجر في شرم الشيخ يذكّرهم بعبور القناة، وكل نسمة تمرّ فوق مائدة التفاوض تحمل رائحة النصر المصري، لهذا يُمكن القول، إن هذا اللقاء ليس تفاوضًا بقدر ما هو عقاب رمزي ذو أبعاد نفسية، تُعيد فيه مصر صياغة المعنى، من حربٍ بدأت في 6 أكتوبر 1973 لتحرير الأرض فى سيناء، إلى مفاوضاتٍ بدات في اليوم ذاته والمكان لإنهاء احتلالٍ آخر: إحتلالٍ للضمير وللحق الإنساني.
ربما لم تعد الحرب تُدار بالمدافع، لكنها تُحسم الآن بالرموز، ومصر، باختيارها هذا التوقيت، وخلال إحتفالاتها بنصر أكتوبر، لا تتحدث كثيرًا، بل تكتب التاريخ بالإشارة، وبالرمزية النفسية وتقول للعالم كله، من أرض سيناء التى حررناها بالدم بينما كانت مجرد صحراء فكيف تحلمون بها جزءا من إسرائيل الكبرى وهى جنة الأرض، ومن السادس من أكتوبر بدأ الانتصار، ومن السادس من أكتوبر سيبدأ السلام الحقيقي – سلامٌ يليق بالمنتصر لا بالمهزوم.






