مقالات

د. جمال منصور يكتب: من الدوحة إلى القاهرة.. حين تعود البوصلة إلى الاتجاه الصحيح 

في مشهد يعيد رسم خريطة التحالفات العربية من جديد، تتجه قطر بخطى واثقة نحو الاستثمار في مصر، وذلك بعد أن قررت ضخ استثمارات ضخمة في مشروع تنموي سياحي بمنطقة علم الروم بمحافظة مطروح على مساحة خمسة آلاف فدان، وبقيمة تصل إلى سبعة مليارات دولار، بالإضافة الى حصول مصر على حصة من المشروع تصل إلى 40%، هذا فضلا عن دخول قطر فى امتيازات النفط والغاز والطاقة المتجددة فى مصر من خلال شركاتها.

هذا المشروع لا يقف عند حدّ التنمية الاقتصادية، بل يحمل رمزية سياسية واقتصادية عميقة تعكس تحوّل الرؤية القطرية تجاه مفهوم “التحالف الموثوق”، وسعيها لتوثيق شراكة استراتيجية مع القاهرة، بعيدًا عن الرهان على تحالفات هشة أو مضطربة.

تسعى مصر من خلال هذه الخطوة إلى رفع حجم الاستثمارات المباشرة إلى 42 مليار دولار خلال العام المالي 2025/2026، في إطار ما وصفته الدوائر الاقتصادية في الدوحة بـ”الشراكة المضمونة”، ليس فقط من زاوية العائد الاقتصادي، بل من حيث الاستقرار السياسي والثقة في القرار المصري، خاصة في ظل ما يشهده الإقليم من اضطراب وتبدّل في موازين التحالفات.

لقد كشفت الأيام الأخيرة أن المال وحده لا يضمن الأمان السياسي، وأن المظلة الأمريكية التي طالما احتمت بها بعض الدول لم تعد تقي من القصف ولا من الغدر، فحين تعرّضت الدوحة لقصف إسرائيلي بدعم أمريكي، انكشف بوضوح زيف الحماية الغربية، وسقطت ورقة التوت عن شعارات التحالف الاستراتيجي، لتجد قطر نفسها أمام الحقيقة القديمة الجديدة: أن مصر – رغم كل الضغوط والتحديات – هي الشريك العربي الأكثر ثباتًا واتزانًا وموثوقية.

هذا التحول في النظرة القطرية لم يأتِ من فراغ، بل جاء تتويجًا لموقف مصري بطولي وصريح قاده الرئيس عبد الفتاح السيسي، حين وصف إسرائيل بـ”العدو”، وهو التعبير الذي لم يُستخدم في الخطاب الرسمي العربي منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد. تلك الكلمة لم تكن مجرد توصيف سياسي، بل إعادة تعريف أخلاقي للواقع الإقليمي؛ فبينما انشغلت بعض العواصم بتطبيعٍ بارد ومصالح ضيقة، اختارت القاهرة أن تضع النقاط على الحروف وتُعلن أن التطبيع لا يعني النسيان، وأن السلام لا يُبنى على إنكار العداوة، بل على إدراكها وضبطها.

وهكذا، حين اختارت قطر أن تستثمر في مصر، فهي لم تبحث عن أرضٍ تُدرّ ذهبًا، بل عن شريكٍ يحفظ الكرامة ويحمي الظهر. فمصر التي قاومت التهجير الفلسطيني ورفضت الانصياع للضغوط، أثبتت أنها قادرة على الجمع بين الوطنية والسيادة والمسؤولية الإقليمية، وهو ما جعلها — في نظر الدوحة وغيرها — الركيزة الأمتن للتحالف العربي الجديد في مواجهة غطرسة الاحتلال الإسرائيلي وسياسات الفوضى الممنهجة.

إن صفقة علم الروم ليست مجرد مشروع استثماري سياحى بقيمة سبعة مليارات دولار، بل بيان تحالف جديد يُكتب بلغة المصالح الناضجة لا الولاءات العمياء. إنه تحالف يقرأ المستقبل بعين الواقع، ويضع الثقة في من أثبت عبر التاريخ أن قراره مستقل، وأن أمن العرب لا يصان إلا بقدر ما تُصان القاهرة.

فمنذ أن أعلنت مصر بوضوح أن إسرائيل هي العدو الحقيقي، لم يعد هناك التباس في الاصطفاف العربي. ولعل قطر – بخبرتها الطويلة في التحالفات – قد أدركت أن المستقبل لا يُبنى على تحالفات عابرة، بل على شراكات أصيلة تقف في وجه المشروع الصهيوني لا بجيوشها فقط، بل بمواقفها الأخلاقية والسياسية والاقتصادية أيضًا.

إنها ليست مجرد صفقة، بل عودة البوصلة إلى الاتجاه الصحيح إلى القاهرة، حيث تُصنع القرارات بحكمة، وتُوزن التحالفات بالعقل، لا بالخوف ولا بالمصالح اللحظية.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى