د. إبراهيم مصطفى المحروقي يكتب: جغرافيا الظمأ.. الماء وحدود الصمود في الشرق الأوسط
في التاريخ الطويل للحضارات، لم تسقط الأمم -فقط- لأن الأرض ضاقت بها أو لغزو خارجي، بل في كثير من الأحيان لأن الماء قد أفلت من قبضتها.
فقد انهارت حضارة سومر نتيجة تملّح التربة بعد قرون من سوء إدارة الري، وسقطت الإمبراطورية الأكدية حين ضرب الجفاف الطويل نظامها الزراعي، ففقدت المدن غذاءها وتفككت السلطة وحتى مصر رمز الاستقرار النهري، شهدت في عصور الاضمحلال انهيار الدولة المركزية كلما اختل انتظام فيضان النيل.

والعجيب أن العالم المعاصر، رغم تفوقه العلمي، يواجه اليوم خطرًا مائيًا أشد وطأة من تلك التي أسقطت حضارات قديمة، لأن الخلل لم يعد محليًا، بل أصاب النظام المناخي العالمي ذاته، واضعًا أقاليم كاملة أمام معادلة بقاء لا تنمية.
وفي قلب هذا المشهد، يقف الشرق الأوسط بوصفه إقليم الإنذار المبكر: إقليم فقير مائيًا بطبيعته، مثقل بسكانه، معتمد على أنهار عابرة للحدود، ومفتوح على صراعات سياسية تجعل الماء فيه موردًا بلا حماية، هنا لا تصبح أزمة المياه شأنًا تنمويًا فحسب، بل تتحول إلى مسألة بقاء جغرافي وسيادي، تفرض إعادة قراءة علاقة الإقليم بالماء قبل أن يعيد التاريخ منطقه القاسي بلغة أكثر عنفًا.
المناخ.. وحين يفقد الماء انتظامه
يمثل التغير المناخي أخطر ما يواجه منظومة المياه المعاصرة، فهو لا يقلّص الموارد المائية فحسب، بل يكسر انتظامها الذي قامت عليه الزراعة والدولة، فقد ارتفع متوسط الحرارة عالميًا بنحو 1.1 درجة مئوية، بينما تجاوز الارتفاع في الشرق الأوسط 1.5–2 درجة مئوية منذ سبعينيات القرن الماضي ونتيجة لذلك، تزايد التبخر وتراجعت فعالية الأمطار، مع توقع انخفاض هطول الأمطار في شرق المتوسط وبلاد الرافدين بنسبة من (10–20%) بحلول 2050.
تكمن الخطورة هنا في فقدان اليقين المناخي؛ فالماء لم يعد منتظمًا ولا قابلًا للتوقع، مما يضرب التخطيط الزراعي والغذائي في جذره، ويدفع الدول إلى إدارة المخاطر بدلًا من بناء التنمية.
نصيب الفرد.. المؤشر الذي يسبق الانهيار
إذا كان إجمالي الموارد المائية يعكس قدرة الطبيعة، فإن نصيب الفرد يكشف قدرة النظام المائي على الوفاء بالحاجات الحيوية، فقد تراجع المتوسط العالمي من أكثر من 13 ألف متر مكعب سنويًا منتصف القرن العشرين إلى أقل من 6 آلاف متر مكعب اليوم، بينما تعيش معظم دول الشرق الأوسط تحت خط الفقر المائي البالغ 1000 متر مكعب سنويًا.
وتبرز حدة الأزمة في أرقام إقليمية ملفتة للنظر:
ففي الأردن لا يتجاوز نصيب الفرد 90-100متر مكعب سنويًا، وفي العراق هبط إلى أقل من 500 متر مكعب بعد أن كان يتجاوز 2000 متر مكعب في سبعينيات القرن الماضي، بينما تراوح في سوريا بين 800-1000 متر مكعب مع قابلية عالية للانخفاض، وتُعد إسرائيل من أشد دول الإقليم ندرة بنصيب فرد لا يتجاوز 200-220متر مكعب سنويًا.
وفي مصر، تراجع نصيب الفرد إلى نحو 500 متر مكعب، وتكشف هذه الأرقام عن منحنًى إقليميًا عامًا تنكمش فيه مساحة الأمان المائي والغذائي، بما يضع الإقليم بأسره على مشارف الخطر البنيوي.
الأنهار المشتركة.. الماء كأداة نفوذ
في حوض دجلة والفرات، لم يكن تراجع التدفقات المائية بنسبة 30-40% خلال العقود الأخيرة نتيجةً للتغير المناخي وحده، بل حصيلة مباشرة لاختلال ميزان القوة السياسية في الإقليم، فقد استغلت تركيا موقعها كدولة منبع لفرض أمر واقع مائي عبر مشروع جنوب شرق الأناضول، الذي يضم عشرات السدود، من دون اتفاقات ملزمة تضمن حقوق دول المصب، ما أدى إلى تراجع تدفقات النهرين إلى العراق، وفقدان سوريا في بعض سنوات الجفاف نحو 50% من حصتها المائية من الفرات.

وقد انعكس ذلك في خسائر زراعية واسعة، إذ خرج أكثر من 40% من الأراضي المروية في وسط وجنوب العراق من الخدمة خلال فترات متكررة، وارتفعت ملوحة تربة شط العرب إلى مستويات غير صالحة للزراعة، بينما تراجع الإنتاج الزراعي في حوض الفرات السوري بنسبة 30-60% حتى قبل اندلاع الحرب، ثم تفاقم الانهيار مع غياب الدولة المركزية، هنا لم تفقد المياه بفعل الطبيعة وحدها، بل بفعل ضعف سياسي جعلها ملفًا تابعًا لا أولوية سيادية، فضاعت الحقوق المائية سياسيًا قبل أن تضيع هيدرولوجيًا.
ويتكرر المنطق ذاته في القرن الإفريقي، حيث تكشف الحالة الصومالية نموذجًا أكثر حدة؛ فبرغم امتلاك البلاد أنهارًا عابرة للحدود، سمح غياب الدولة لإثيوبيا بالتحكم في الموارد المائية عبر مشروعات على روافد الأنهار المشتركة، فيما يشبه ) سد نهضة صومالي غير معلن) ، حوّل الجفاف من ظاهرة طبيعية إلى أزمة إنسانية وأمنية متكررة.

وعلى النقيض من ذلك، تبرز التجربة المصرية بوصفها نموذجًا مختلفًا في إدارة الصراع المائي. فرغم بناء سد النهضة الإثيوبي بسعة تخزينية تتجاوز 70 مليار متر مكعب، لم تتعامل الدولة المصرية مع الملف بوصفه قضية فنية أو تنموية فحسب، بل كقضية أمن قومي، استخدمت فيها أدوات الضغط السياسي والدبلوماسي والقانوني، وحافظت على مركزية الملف في القرار السيادي. وبذلك لم تُلغِ مصر المخاطر، لكنها منعت تحوّلها إلى أمر واقع صامت، وأبقت حقوقها المائية ضمن مجال الصراع السياسي المفتوح لا الاستسلام الجغرافي.
إعادة تدوير العجز المائي: الصرف الزراعي والصحي كحلول للأزمة
في ظل عجز مائي مزمن، لم تعد إعادة استخدام المياه في الشرق الأوسط خيارًا تكميليًا، بل تحولت إلى آلية بقاء، ففي مصر، يُعاد استخدام نحو 18-22 مليار متر مكعب سنويًا من مياه الصرف الزراعي، أي نحو ثلث مياه الزراعة تقريبًا، بما يجعل قطاعًا واسعًا من الإنتاج قائمًا على موارد مائية معاد تدويرها. وقد دعمت الدولة هذا المسار بمحطات معالجة كبرى في الدلتا الجديدة وسيناء.
وفي دول أخرى، اتخذت الأزمة مسارًا أكثر حساسية. فالأردن يعتمد على مياه الصرف الصحي المعالجة بنحو 14-16% من موارده المائية، وتغطي هذه المياه قرابة ربع مياه الري، ما يجعلها موردًا حيويًا لا غنى عنه، لكنه يفتح في الوقت ذاته إشكاليات صحية واجتماعية وسياسية، ويحوّل المورد نفسه إلى نقطة ضغط محتملة.
أما إسرائيل، فقد اعتمدت على التحلية لتأمين المدن، وعلى إعادة استخدام مياه الصرف الصحي في الزراعة، في نموذج لا يعكس تجاوزًا للأزمة، بل إدارة قسرية لعجز بنيوي مرتبط بالكلفة والطاقة والمخاطر البيئية. وتؤكد أن التحلية والصرف – الزراعي أو الصحي – ليست حلولًا مستقرة، بل علامات على بلوغ النظام المائي أقصى طاقته الاحتمالية.
بهذا المعنى، لا تمثل إعادة تدوير المياه حلًا نهائيًا، بل آلية صمود مؤقتة تؤجل لحظة الاختناق ولا تلغيها، وتكشف أن الإقليم بات يدير الندرة داخل منظومات تعويضية عالية الكلفة لا عبر موارد آمنة ومتجددة.
في هذا السياق، تبرز الحالة المصرية بوصفها اختيار دولة لا حيلة دولة؛ فبرغم ثقل سكاني يقترب من حدود الاحتمال، وبرغم أزمة سدّ النهضة التي تضغط على المورد الرئيسي، لم تنزلق مصر إلى الاعتماد الواسع على مياه الصرف الصحي في الزراعة كما فعلت دول أخرى تحت وطأة العجز.
لقد فضّلت الدولة إدارة العجز داخل حدود أكثر تحفظًا، والتمييز الصارم بين ما يمكن إعادة استخدامه، وما لا يجوز ربطه بالأمن الغذائي طويل الأمد، إدراكًا لحساسية المجتمع، ولسيادة الغذاء، وللكلفة السياسية والصحية المؤجلة لمثل هذا المسار.
هذا الموقف لا يعكس إنكارًا للأزمة، بل وعيًا بطبيعتها وحدود الحلول المتاحة، فالدولة التي تختار ألا تُطعم شعبها اعتمادًا على موارد مائية مثقلة بتعقيدات صحية وبيئية واجتماعية، رغم شدة الضغوط، تؤكد أنها لا تُدير المياه كملف فني، بل كقضية ثقة ومسؤولية تاريخية.
ولم تشهد في الوقت ذاته انهيارًا في قاعدتها الزراعية. وعلى العكس، نجحت الدولة في الحفاظ على رقعتها الزراعية بل وزيادتها، إذ ارتفعت المساحة المزروعة من نحو 8.5 مليون فدان في مطلع الألفية إلى قرابة 10 ملايين فدان في السنوات الأخيرة، مدعومة بمشروعات التوسع الأفقي في الدلتا الجديدة وتوشكى وشرق العوينات وسيناء.
ولا تعكس هذه الزيادة وفرة مائية بقدر ما تعبّر عن إدارة دقيقة للعجز، تقوم على إعادة توزيع الموارد، ومنع تفكك القطاع الزراعي، في إقليم فقدت فيه دول مجاورة مساحات واسعة من أراضيها المروية، بهذا المعنى، لا يكون الدور المصري كاملًا أو خاليًا من التحديات، لكنه يظل دور دولة تحاول الصمود دون أن تفرّط في عقدها الاجتماعي، في إقليم أصبحت فيه حلول البقاء السهلة أخطر من الأزمة نفسها.






