صلاح رشاد .. يكتب : الملك العضوض والأثمان الباهظة (8)
عبد الملك يفكر في خلع أخيه
إنشغل عبدالملك في بداية حكمه بصراعه الدموي مع عبد الله بن الزبير، وأثبتت تجارب الماضي أن من يملك الشام ومصر يفرض كلمته وسطوته في النهاية .. هذا مافعله معاوية رضي الله عنه .. وهذا ماحدث لعبد الملك بن مروان أيضا.
و كان عبد الملك شديد الحب لآل الزبير وخاصة مصعب بن الزبير الذي كان عبد الملك لا يصبر علي فراقه فقد كانا صديقين حميمين ثم تولي مصعب ولاية العراق لأخيه عبد الله و
انقلبت الصداقة الي عداوة، والمحبة الي كراهية لأن الملك عقيم ولايبقي علي صداقة أو قرابة.
ونجح عبد الملك في شراء ولاءات زعماء القبائل العراقية وضيق الخناق علي مصعب وأعطاه الأمان للمحبة والرصيد القديم لكن مصعب رفض أمان عبد الملك وقال: إن الحسين وآل بيته لم يتركوا لمثلي خيارا غير الحرب وعدم الاستسلام.
فتفرق الناس عن مصعب وظل يقاتل حتي قتل هو وابنه الذي رفض أيضا أمان عبد الملك واستحيا أن يعيش ويترك أباه مجندلا في ساحة القتال. (نموذج نادر للتضحية)
وكان مصعب بن الزبير في الأربعين من عمره عند مقتله.
وكان عبد الملك مثل كل مؤسسي الدول الكبيرة يستقبل الأحداث الجسام بثبات وترتيب للأولويات وعدم جزع.
في تاريخ ابن عساكر عن إبراهيم بن عدي قال: رأيت عبد الملك بن مروان وقد أتته أمور أربعة في ليلة فما تنكر و لا تغير وجهه، قتل عبيد الله بن زياد وقتل حبيش بن دلجة بالحجاز و انتقاض ما كان بينه وبين ملك الروم وخروج عمرو بن سعيد إلى دمشق.
أربع كوارث جاءت أخبارها لعبد الملك في يوم واحد، انكسر جيش ابن زياد في موقعة الخازر أمام الجيش العراقي بقيادة إبراهيم بن الأشتر، وقتل ابن زياد وكل قادة الجيش شر قتلة، وتشتت جيش الشام الذي كان ذاهبا للسيطرة علي المدينة وبعدها مكة بعد مقتل قائده حبيش بن دلجة، وشعر ملك الروم باهتزاز موقف عبد الملك فنكث عهده معه، وخرج عمرو بن سعيد ابن عمة عبد الملك وابن عمه غاضبا إلي دمشق وكان من رجالات بني أمية الأقوياء وله أنصار وجبهة قوية تسانده في الشام، ورغم ذلك لم يتأثر عبد الملك ولم يهتز، وتعامل مع كل هذه الأحداث الجسام بمكر ودهاء، وحسم كل الأمور لمصلحته في نهاية المطاف، وبعد 8 سنوات من خلافته وبالتحديد عام 73 هجريا انتهت دولة ابن الزبير بمقتله وصلب جثته علي يد الطاغية الحجاج بن يوسف.
وظل عبد الملك وفيا لبيعة أبيه الذي جعل ولاية عهد عبد الملك في أخيه عبد العزيز .. وكان عبد العزيز كما قلنا قبل ذلك قرين أخيه عبد الملك في الحزم والدهاء والفصاحة والبلاغة .. واختلفا فقط في الخلافة .. فعبد الملك تولاها وعبد العزيز حالت بينه وبينها إرادة الله بعد أن مات قبل عبد الملك بعام واحد، وكان عبد الملك قد ترك خراج مصر وإفريقيا لأخيه عبد العزيز ليس لأنه الوالي عليهما وإنما لأنه أخوه وولي عهده.
و في نهاية المطاف تسلل حب الولد إلي عبد الملك وزيَّن روح بن زنباع صاحب شرطة عبد الملك له عزل أخيه وقال له: لن ينتطح فيه عنزان.
وأراد عبد الملك بالفعل أن يخلع أخاه لكن برضاه من أجل أن تذهب الخلافة إلي ابنه الوليد بعد ذلك لكن عبد العزيز رفض وقال له : إنني أري في ابني أبي بكر ما تراه في ابنك الوليد.
فرد عبد الملك بالمطالبة بخراج مصر وإفريقيا، وهنا أرسل عبد العزيز رسالة إلي أخيه لامست شغاف قلبه كما جاء في تاريخ الطبري حيث قال له: إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلا، وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولا، فإن رأيت أن لا تغثث (لاتفسد) علي بقية عمري فافعل .. فرق له عبد الملك، وقال : لعمري لا أغثث عليك بقية عمرك.
وقال عبد الملك لابنه الوليد : إن يرد الله أن يعطيكها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك عنك.
وقال لابنيه الوليد وسليمان: هل قارفتما محرما أو حراما قط ؟ قالا: لا والله ، فقال: الله أكبر، نلتماها ورب الكعبة.
ومات الإصبغ بن عبد العزيز فحزن عليه أبوه حزنا شديدا وكان يساعده في شئون الحكم، فمات أبوه بعده بأيام قلائل وهو في الثامنة والخمسين من عمره .. وكان عبد العزيز بن مروان رحمه الله من خيار الأمراء، كريما شجاعا ضابطا لأمور دولته الكبيرة لأنه ظل واليا علي مصر وإفريقيا أكثر من 20 عاما حتي وفاته، وهو الذي بني مدينة حلوان وكانت مشتي له ثم جعلها مقر حكمه، ويكفي عبد العزيز شرفا ولده الصالح الأسطورة عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه .. وحفيده عبد الملك بن عمر الذي كان أشد زهدا من أبيه.
وبعد موت عبد العزيز، سارع عبد الملك بإسناد ولاية العهد إلي ولديه الوليد وسليمان وكأنه مصمم علي أن يسير علي نهج أبيه مروان في جعل ولاية العهد في اثنين، ومات عبد الملك بعد أخيه عبد العزيز بعام واحد وكان في الستين من عمره، وتولي ابنه الوليد الخلافة وهو في السادسة والثلاثين من عمره.
فكيف سار سيناريو ولاية العهد ؟
وهل أراد الوليد أن يخلع أخاه ويولي ابنه ؟
كل هذه التساؤلات نجيب عنها في الحلقة المقبلة إن شاء الله.