صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (33)
عم المنصور أول ضحاياه
تطرقنا في الحلقات الماضية إلي أن موقف عبدالله عم أبي جعفر، وهو علي الأرض كان أقوي وقد عرض عليه أحد رجاله الشاميين رأيا سديدا قال له: أرسل ألفا من أقوي جندك وعلي رأسهم واحد من أولي البأس والشدة يأسرون أبا جعفر وأبا مسلم وهما في طريق عودتهما من مكة، وسارع أنت بالذهاب إلي الأنبار لأنها معقل الخلافة في ذلك الوقت وبها بيوت الأموال، وكان أيضا هو رأي القائد العسكري إسحق العقيلي رفيق المنصور في رحلة الحج، لكن عبدالله لم يعجبه هذا الرأي الذي كان فيه إنتصاره.
كيف ذلك ؟
لو سيطر عبدالله علي بيوت الأموال لضرب أبو جعفر المنصور في مقتل لأنه بذلك يكون قد حرمه من سلاح المال الذي يحرك به الجيوش ويشتري به الولاءات ويفعل به مايريد.
وكان المنصور بدهائه يظن ذلك الظن، لذلك أسرع بالرحيل إلي الأنبار، ومن حسن حظ المنصور أن عمه عبدالله خانه دهاؤه هذه المرة وتصرف بطريقة تقليدية لا تليق بمن يطلب ملكا عريضا، بل تصرف بالطريقة التي تجعل الزمام في يد المنصور.
وأثبت عبد الله في هذا الموقف التاريخي أنه رجل حرب وليس رجل سياسة بكل ما فيها من مكر وحيل واستباق للأحداث، فهذه اللحظات المفصلية هي التي تكتب التاريخ، فمن يكون علي مستواها ويسيرها وفق خطته يبني ملكا ومجدا .. ومن يتردد أو يعجز عن إتخاذ القرار السديد يخسر كل شيء.
ورمي المنصور عمه عبد الله بأشرس قواده وأدهاهم وهو أبومسلم الخراساني،
إنها أقدار الله الغالبة التي جعلت هذين الجبارين الغدارين يطحنان بعضهما من أجل عدوهما الخطير أبي جعفر الذي يتربص بهما الدوائر.
جاء أبومسلم بجيشه واراد أن يخدع عبدالله الذي كان متمركزا في مدينة نصيبين التركية، فقال: لم آت لقتالك ولكن أمير المؤمنين ولاني الشام، كان عبدالله يعلم أنها خديعة وأراد أن يقطع عليه الطريق قبل أن يصل إلي الشام ويبدأ بقتاله خاصة أن موقع عبدالله كان حصينا، لكن قادة جيشه الشاميين تخوفوا علي أهلهم وأبنائهم من أبي مسلم، فقال لهم عبدالله: أنا أعلم بما جاء به أبو مسلم، لم يأت إلا لقتالكم، لكن قادته لم يستمعوا لنصحه وظنوا أنه ذاهب إلي الشام فرفضوا أن يحاربوا أبا مسلم في البداية.
وبمجرد نزول عبد الله وجيشه من موقعهم الحصين نزله أبومسلم فقال لهم عبد الله ألم أقل لكم إنه جاء لقتالنا، لكن أوان تصحيح الأوضاع كان قد فات .. وارتكب عبد الله جريمة نكراء تضاف إلي قائمة جرائمه السابقة عندما تخوف من الجزء الخراساني في جيشه فخاف أن ينحاز الخراسانيون في جيشه إلي أبي مسلم الخراساني فقتلهم، قيل إنهم كانوا بضعة آلاف ورواية قالت إنهم 13 ألفاً ورواية ثالثة رفعت العدد إلي 17 ألفاً.
ورغم أن هذه الرواية وردت في معظم كتب المؤرخين إلا أنها تبدو غامضة وغير مقبولة، وتفرض تساؤلات كثيرة .
كيف قتل عبد الله كل هذا العدد من جيشه؟ هل وضع لهم السم في الطعام مثلا؟ هل قتلهم وهم نائمون ؟ أم أنه وضع خطة عسكرية لاستئصال هذا الجزء من جيشه؟ وماذا كان رد فعل باقي الجيش؟ هل وافق علي هذه الجريمة الشنعاء؟
لكن للأسف كتب المؤرخين تنقل الواقعة فقط دون أن تحيطنا بتفاصيلها وملابساتها لتزيد الأمر غموضا علينا.
وبعيدا عن هذ الواقعة المريبة، إستمرت هذه الحرب الضروس شهورا وكانت الغلبة في البداية لعبدالله، لكن أبا مسلم الداهية لم يعدم خدعة حربية تقلب الموازين وتجبر عبد الله علي الهروب هو وأخوه عبدالصمد .. بعد أن صارت الهزيمة أمرا واقعا.. وكان قبيحا بعبد الله «جبار الشام» أن يهرب وقد لام مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين علي هروبه .
لكن عبد الله وجد أن الفرار أهون من الموت وسار إلي أخيه سليمان والي البصرة، مختفيا عنده الي حين، وسلم العم الثاني وهو عبدالصمد بن علي نفسه لوالي الأنبار الذي أرسله إلي المنصور مقيدا بالحديد.
وتدخل عيسي بن موسي ولي العهد ونجح في أن يقنع المنصور بالعفو عن عمه عبدالصمد، أما عمه الآخر، عبدالله، فقد مكث بعض الوقت عند أخيه سليمان والي البصرة ظنا منه أن إخوته قادرون علي إقناع المنصور بالعفو عن عمه.
وطوي المنصور ملف عمه عبد الله مؤقتا خاصة أنه أصبح كالأسد الأسير الذي فقد أنيابه ومخالبه فلم يعد منه أي خطر.
والتفت أبو جعفر إلي عدوه الأخطر، أبي مسلم، رجل الخلافة القوي الذي أنقذه من تمرد عمه، وقرر أن يستدرجه للفخ قبل أن يعود إلي خراسان فيصبح القضاء عليه صعب المنال وبتكلفة باهظة علي الدولة العباسية الوليدة، فكيف تم الإستدراج ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .