من الزيتونة إلى الجامع الكبير الفاطمي.. مساجد تونس التاريخية تضيء «رمضان»
تشهد المساجد في تونس على غرار بقية الدول العربية إقبالا كبيرا من المصلين خلال شهر الصيام، فقبل حلول هذا الشهر يقوم المتطوعون بتنظيف المساجد والجوامع وطلاء جدرانها، وتجهيزها بالفرش الجديدة وتزويدها بأكبر عدد من المصاحف وبكميات من البخور الذي يستعمل كل ليلة خلال شهر رمضان.
وتشهد تلك المساجد خصوصا التاريخية توافد أعداد غفيرة من المصلين طيلة شهر رمضان، حتى أن بعضها لا يستوعب العدد الكبير من المصلين، مما يضطرهم للصلاة في الساحات الخارجية والشوارع المحاذية للجامع.
ويتجاوز عدد المساجد في تونس 5 آلاف، وفقا لإحصائيات وزارة الشؤون الدينية التونسية، لكن يبرز بعضها بعبقه التاريخي، لاسيما جامع الزيتونة المعمور الواقع في قلب المدينة العتيقة في تونس العاصمة والذي تأسس في عام 79هـ وجامع الصحابي أبي لبابة الأنصاري، الذي استخلفه النبي محمد صلى الله عليه وسلم على المدينة في غزوتي بدر والسويق. كما تقف مساجد عريقة أخرى شاهدة على تأصل الدين الإسلامي في تونس، على غرار الجامع الكبير بـ “تستور” في ولاية “باجة” شمال غربي البلاد، والجامع الكبير بولاية “سوسة” في وسطها الشرقي، جامع سيدي اللخمي في ولاية “صفاقس” جنوبا، والجامع الكبير الفاطمي في ولاية “المهدية” الساحلية وغيرها.
وبالعودة إلى جامع الزيتونة، الذي تأسس في عام 79 هـ بأمر من حسان بن النعمان، وسط المدينة العتيقة بالعاصمة، فإنه يعتبر ثاني أقدم مسجد في تونس بعد جامع عقبة بن نافع، ويمتد على مساحة 5000 متر مربع، ولديه تسعة أبواب، فيما تتكون قاعته الداخلية من 184 عمودا أخذت من الموقع الأثري بقرطاج.
وبحسب وزارة الشؤون الدينية فقد اعتمد في بناء هذا الجامع على الحجارة مع استعمال الطوب في بعض الأماكن، كما أن قبة محرابه مزركشة بزخرفة على كامل المساحة الظاهرة في الطوابق الثلاثة، فيما يرتكز صحن الجامع على أعمدة ذات تيجان، بينما الأروقة الثلاثة الأخرى ترتكز على أعمدة من الرخام الأبيض المستورد من إيطاليا في منتصف القرن التاسع عشر، وتوجد في منتصف الفناء أو الصحن، مزولة “ساعة شمسية”، تساعد على تحديد أوقات الصلاة.
ويضم جامع الزيتونة مكتبة تأسست في القرن السابع الهجري، وبها 40 ألف مخطوط، كما تم تزويدها بأهم الكتب.
وأهدها المهاجرون من الأندلس العديد من المؤلفات والكتب التي أتوا بها إلى تونس، فيما يقوم العديد من العلماء بتزويدها بمؤلفات في علوم شتى، مثل تفسير القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والفقه وأصوله، حيث تم حفظها في خزائن خاصة بها مما حفظها من التلف والترهل؛ من أجل إتاحة فرصة الاستفادة منها من قبل الباحثين والدارسين.
ويتمركز جامع الزيتونة في وسط المدينة العتيقة، إذ تحيط به مئات المحال التجارية، ويعد من بين أكثر الجوامع في العاصمة التي تستقبل عددا كبيرا من المصلين على مدار السنة، خصوصا خلال شهر رمضان، كما يحتضن حلقات لحفظ القرآن طيلة شهر رمضان، لا سيما للأطفال.
وبخصوص تسمية هذا الجامع بجامع الزيتونة، فالروايات قد اختلفت، فمنها ما ذهب إلى أن الجامع بني في موضع كان مزروعا بشجر الزيتون، قطعت كلها ولم تبق إلا زيتونة واحدة في وسط ساحة الجامع فسمي بها. ومنها أن المسلمين عند فتحهم قرطاج وجدوا زيتونة منفردة في موضع المسجد فقالوا هذه تونس، وسمي المسجد بجامع الزيتونة، وغيرها من الروايات الأخرى.
ومنذ إنشائه، شهد الجامع عمليات ترميم وتبديل عبر مختلف السلالات الحاكمة التي مرت على تونس، فيما تم النداء للصلاة والأذان من أعلى المنارة لأول مرة في 26 رمضان 1312هـ، بحضور علي باي الثالث.
وبينت وزارة الشؤون الدينية أن عمليات إصلاح جامع الزيتونة تعددت في العهد الفاطمي (296هـ 362هـ 909م – 973م) على أيدي أمراء الدولة الصنهاجية. وهو ما تجسد في إنشاء القبة البديعة فوق البهو والرواق الموجود أمام واجهة الصلاة. أما أكبر الإصلاحات والتحسينات العمرانية فقد أدخلت على هذا الجامع في أثناء العهد الحفصي.
وشهد جامع الزيتونة عناية فائقة في ظل حكومة الاستقلال فقد أنيطت بالمعهد الوطني للتراث مهمة الإشراف العلمي على عمليات الترميم والتحسين. ومن الترميمات التي أنجزت في هذه الفترة تعويض أعمدة تيجان متداعية وتجديد بعض السقوف وإبراز الزخرفة الأصلية داخل القبتين وإبراز الرواق الشرقي ومقصورة أبي عمرو عثمان وتهديم قاعدة المكتبة العبدلية التي جددت في عهد الصادق باي، وذلك بقصد إرجاع الجناح الأيمن من الرواق على وضعه الأصلي.
أما جامع عقبة بن نافع، الذي يقع بالقيروان وسط البلاد، فيعتبر أكبر جامع في تونس، وبناه عقبة بن نافع أواخر القرن الثامن الميلادي، ويتميز بطراز معماري فريد، ويعد من أضخم المساجد في الغرب الإسلامي وتبلغ مساحته الإجمالية ما يناهز 9700 متر مربع.
وتتميز القبة الأكبر في المسجد والمعروفة بباب البهو بـ32 سارية من بديع الرخام ذي النقوش الغريبة والزخارف المختلفة، بالإضافة إلى مجموعة من القباب ذات الطراز المعماري البديع.
وبحسب وزارة الشؤون الدينية فإن الجامع كان حين إنشائه بسيطا صغير المساحة تستند أسقفه على الأعمدة مباشرة، دون عقود تصل بين الأعمدة والسقف. وحرص الذين جددوا بناءه فيما بعد على هيئته العامة، وقبلته ومحرابه، وتمت توسعته وزيد في مساحته عدة مرات ولقي اهتمام الأمراء والخلفاء والعلماء في شتى مراحل التاريخ الإسلامي، حتى أصبح معلما تاريخيا بارزا ومهما.
وبناء الجامع في شكله وحجمه وطرازه المعماري الذي نراه اليوم يعود أساسا إلى عهد الدولة الأغلبية في القرن الثالث هجري أي القرن التاسع ميلادي وقد تواصلت أعمال الصيانة والتحسينات خصوصا في ظل الحكم الصنهاجي ثم في بداية العهد الحفصي.
ويحتوي جامع القيروان على كنوز قيمة، فالمنبر يعتبر تحفة فنية رائعة وهو مصنوع من خشب الساج المنقوش ويعتبر أقدم منبر في العالم الإسلامي ما زال محتفظا به في مكانه الأصلي ويعود إلى القرن الثالث للهجرة أي التاسع ميلادي، كذلك مقصورة المسجد النفيسة التي تعود إلى القرن الخامس هجري أي الحادي عشر ميلادي وهي أيضا أقدم مقصورة.
فيما يوحي الشكل الخارجي للجامع أنه حصن ضخم، إذ إن جدران المسجد سميكة ومرتفعة وشدت بدعامات واضحة.
وتنظم في جامع عقبة بن نافع خلال ليلة القدر سهرة دينية يتوافد إليها الزوار بالآلاف من جميع المحافظات.
وفي المقابل، يعتبر الجامع الكبير من أهم المعالم المعمارية التي شيدها الأندلسيون في “حي الرحيبة” بمدينة “تستور” بمحافظة باجة سنة 1609 للميلاد على يد محمد تغرينو، وكانت بداية إنشائه ببناء بيت صلاة ثم صومعة، حتى جاء الدور على الصحن الكبير، حيث توجد المزولة التي صنعها أحمد الحرار سنة 1760 للميلاد، ثم أضيفت بعد ذلك الأروقة والمحراب الخارجي.
وأشار رشيد السوسي رئيس جمعية صيانة المدينة في تصريح لوكالة الأنباء القطرية /قنا/ إلى أنه وظفت في الجامع الكبير بـ”تستور” الأعمدة والتيجان التي تم جلبها من المواقع الأثرية الرومانية، ثم تم اقتناء سبعة أعمدة وتيجان جديدة من الطراز الحسيني من تونس العاصمة لإضافة الصحن الصغير. كما يوجد أيضا بالجامع ساعة في أعلى الصومعة تدور عقاربها باتجاه الطواف حول الكعبة “عكس دوران عقارب الساعة المتعارف عليه الآن.
وفي المقابل يشتهر جامع يوسف داي بالعاصمة تونس نظرا لمعماره المختلف ولطريقة بنائه، حيث تم تشييده من أجل تجميع كل الأتراك لأداء صلواتهم فيه.
ويعتبر جامع يوسف داي الجامع التركي الأول الذي لم يختلف في هندسته المعمارية عن بقية الجوامع الأخرى في تونس.
وتحتوي ساحة جامع يوسف داي على ضريح يوسف داي وبقية عائلته، ويعد هذا الجامع من أهم الإنجازات المعمارية التركية التونسية، فهو جامع ذو تخطيط مربع تحيط به أقواس عالية من كل جانب، ترتفع بينها طوابق كبيرة ومنبسطة تزين أركانها أعمدة تزيد المكان بهاء وجلالا وكان التونسيون في السابق يقومون بتنظيف تلك المساجد قبل أسبوع من دخول شهر رمضان؛ إذ تتولى النساء غسل السجاد وتنظيف المسجد، فيما يتولى الرجال تنظيف الغبار على جدرانه، وتوفير البخور والمصاحف الجديدة. وكانت تلك العادة تشمل جميع المساجد، واليوم باتت تشمل فقط المساجد الشهيرة في تونس.
وتشرف على تلك المساجد التاريخية في تونس جمعيات صيانة المدينة في كل جهة، والمعهد الوطني لحماية التراث، الذي يتولى الإشراف على عملية ترميمها سنويا.