عاممقال رئيس التحرير

نبيل فكري .. يكتب: حكايتي مع «أشجار البلوط» !!

بعد تخرجي من الكلية، كانت نافذة الأمل الواسعة «مد البصر» أمامي للعمل في بلاط صاحبة الجلالة، هي «مصطفى أمين،» الكاتب الصحفي الكبير، مؤسس أخبار اليوم وصاحبها قبل تأميمها وصاحب عمود «فكرة» في الأخبار.. لم يكن لديّ أدنى شك أنني سأعمل بإذن الله حيثما أريد.

أما لماذا مصطفى أمين بالذات، فلأنه كان قد أنشأ مؤسسة باسم «مؤسسة مصطفى أمين وعلي أمين للصحافة»، والتي لا زالت للآن، تقدم جوائز في شتى فنون العمل الصحفي، كما تحتفي بأوائل كليات وأقسام الإعلام على مستوى مصر والوطن العربي، والحمد لله كنت أحدهم، فقد كنت الأول على قسم الصحافة والنشر بشعبة الصحافة والإعلام بجامعة الأزهر، قبل أن تصبح كلية مستقلة للإعلام الآن.

كان من الطبيعي أن أحلم بالحفل، وبجائزة الألف جنيه التي تم تخصيصها لكل طالب من الطلاب السبعة أوائل الصحافة في مصر والوطن العربي، وكان مبلغاً سخياً وقتها .. تقريباً كان يساوي 35 جراما من الذهب في هذا الوقت، والأهم من الألف جنيه، كان أن تلتقي «الأستاذ» رمز الصحافة المصرية، والذي كان يدعو بدوره قادة العمل الصحفي في مصر، والذين كانوا حضوراً بالفعل، وأولهم إبراهيم سعدة رئيس تحرير أخبار اليوم، وجلال دويدار رئيس مجلس إدارة الأخبار، وبقية القامات في الوسط الصحفي.

حرفياً .. كنت أتوقع «خناقة» علينا، فهذا يريد وهذا يريد، وتوقعت أن يمهلوني يومين أو ثلاثة لأختار هل أذهب إلى أخبار اليوم أم الأهرام أو الجمهورية أو روزا ليوسف أو دار الهلال، وربما التليفزيون أو الإذاعة .. كانت أحلاما طبيعية للأول بين خمسة من مصر، والباقيان كانا من جامعة أم درمان والكويت على ما أذكر.

المهم .. انتهى الحفل والتقطنا الصورة الجماعية مع مصطفى أمين، وجلست في انتظار أن يأتيني أحدهم، ولما لم يأتي، قلت فلأذهب أنا ولأعرض نفسي .. لا بأس .. هم كبار، فظللت أتنقل من طاولة إلى أخرى، دون أن أصل لمدارات أولئك الذين اكتشفت أنهم وإن كانوا معك في مكان واحد، إلا أن ذلك لا يعني أن الوصول إليهم متاح.

في تلك الليلة، لم يعرض عليّ العمل سوى إبراهيم شكري، وكان رئيساً لحزب «العمل» ورئيسا لمجلس إدارة صحيفة مُعارضة كانت تصدر وقتها اسمها «الشعب» وكانت بوابة مثالية إلى السجن، وأشفقت على نفسي أن أخرج من الجامعة إلى السجن مباشرة، قبل أن أستمتع بحياتي أو حتى بضعة شهور منها، فشكرته على عرضه ووعدته بالذهاب للجريدة، رغم عزمي ألا أقترب حتى من شارعها الذي لا أعرفه.

بعد الحفل بيومين أو ثلاثة، قلت في نفسي: لعل الأستاذ مصطفى أمين كان مشغولاً بالحفل وبمهامه الجسام، فلا مانع من الذهاب إليه وشكره وعرض مأساتي أمامه، فقد كنت قد تخرجت قبل الحفل بعامين تقريباً ولا زلت في قريتي دون عمل، أنكهت أبي من «الطواف» على «الوسايط» لعل أحدهم يرق لحاله وحالي، وتكدست التأشيرات «الفشنك» في بيتنا، وأصبحت عالة على أهلي، وهم الذين ينتظرون مني العون.

كتبت خطاباً «يُبكي الحجر» وذهبت إلى أخبار اليوم لكنني لم أتمكن طبعاً من مقابلة الأستاذ ولا حتى من الاقتراب من مكتبه، فتفتق ذهني عن الجلوس أمام المدخل، وحين وجدته في الطريق إلى سيارته اقتربت منه، وعرفته بنفسي وأنني أحد الأوائل الذين كرّمهم بالأمس، وناولته خطابي فابتسم لي ووعدني خيراً.

عدت إلى قريتي كما اعتدت في كل  مرة، بحكايات ليس إلا، وبأمل يتضاءل يوماً بعد يوم، وظللت قرابة أسبوعين أو ثلاثة دون جديد إلا سهري الذي زاد عن الحد و«رفقاء السوء» الذين زادوا في حياتي ويأسي الذي ينمو مع الأيام كشجرة «حنضل».

ذات يوم، بشَّرني ساعي البريد بخطاب من أخبار اليوم (نعم كان هناك ساعي بريد وكان من مصادر البهجة) .. إنه من الأستاذ مصطفى أمين .. ياااااه .. أخيراً .. يا لجمال وروعة هذا الرجل .. ووجد الوقت الذي يكتب فيه إليّ .. وقرأ رسالتي ودمعت عيناه .. كم ظلمته وتسرعت في الحكم عليه .. «هلاوس» راودتني وأنا أهم  بفتح الخطاب قبل أن أقرأ ما لم أتصور أن أقرأه أبداً.

لقد شكر الأستاذ لي ثقتي وهنأني ثانية بتفوقي، ثم تحدث عن الأزمة التي تعاني منها الصحف لغلاء أسعار الورق، بسبب ندرة أشجار البلوط .. آه والله «ندرة أشجار البلوط»، وأنه لذلك فإن الصحف لم تعد تعيّن أحداً، داعياً لي بالتوفيق والسداد، مطالبا إياي بعدم اليأس وأن أحاول وأسعى حتى أحقق مبتغاي.

استندت إلى ذلك الحائط في بيتي .. في قريتي .. في شارعي المنسي، أسائل نفسي: كيف تأثرت وأنا هنا في غياهب النسيان بندرة أشجار البلوط .. كيف لم ترحمني أشجار البلوط فتنمو بكثرة حتى أعمل في صحيفة .. كيف كان «البلوط» قاسياً عليّ لهذه الدرجة .. ظلمت الناس والمسؤولين والصحفيين ورؤساء التحرير، وبينما أنا في صعود وهبوط، لم أفطن أن أزمتي سببها «أشجار البلوط».

وللقصة بقية إن كان في العمر بقية

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى