تحقيقات وتقارير

بعد قرنين من الزمان

السويد تتخلى عن «الحياد» .. وتلحق بفنلندا في حلف «الناتو»

– الحرب «الروسية – الأوكرانية» .. تركت شعورا بالتوجس من أي تصعيد قد يمس أمن وسلامة الدولتين

– المخاوف العسكرية السويدية بدأت عام 2013 عندما تمكنت الطائرات  الروسية من محاكاة هجوم على ستوكهولم

– القدرات العسكرية السويدية تقوم على نحو 57 ألف عسكري بين مجند وضابط في مختلف الرتب

 

بعد أكثر من قرنين من الزمن، تخلت السويد عن حيادها بإعلان انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، لتحذو حذو جارتها الإسكندنافية فنلندا التي نالت في شهر إبريل الماضي عضوية أكبر حلف عسكري، لتكون العضو الواحد والثلاثين.

وحافظت الدولتان الإسكندنافيتان على حيادهما العسكري لفترة طويلة، لكن واقع الحال دفعهما لتعديل مواقفهما ورؤيتهما لأمنهما منذ إطلاق روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا في الثاني والعشرين من فبراير 2022، وسارعتا بالترشح لعضوية “الناتو”، لتكونان أسرع بلدين يلتحقان بحلف شمال الأطلسي منذ عقود طويلة بالنظر للاشتراطات المطلوبة.

وحطمت الحرب الروسية الأوكرانية الإحساس طويل الأمد بالاستقرار في شمال أوروبا، ما ترك شعورا بالتوجس من أي تصعيد قد يمس من أمن وسلامة السويد وفنلندا، لتغذي مطالب انضمام البلدين إلى الحلف، ولتكون العملية بمثابة صفقة محسومة منذ بدايات الأزمة بين موسكو وكييف.

وأصبحت السويد وفنلندا شريكين رسميين للناتو عام 1994، ومنذ ذلك الحين أصبحتا من المساهمين الرئيسيين في التحالف، وشاركتا في العديد من مهمات “الناتو” منذ نهاية الحرب الباردة، غير أن عضويتهما الكاملة الآن ستمنحهما ضمانات أمنية من الدول النووية بموجب المادة الخامسة من حلف شمال الأطلسي، التي تعتبر الهجوم على دولة عضو هجوما على الجميع.

وكانت فنلندا والسويد قد تقدمتا في 18 مايو 2022 رسميا بطلبين للالتحاق بحلف “الناتو”، لتدشنا بذلك مسار الانضمام، في وقت توقع فيه دبلوماسيون أن تصديق جميع برلمانات الدول الأعضاء، البالغ عددها 30 برلمانا، قد يستغرق حوالي عام، وهو ما حدث بالفعل على أرض الواقع، غير أن المحللين بادروا للتساؤل عما إذا كان قرار الانضمام الذي اتخذ قبل عام من الدولتين حركته الحرب الروسية الأوكرانية، أم ثمة أسباب أخرى جعلتهما يتخليان عن حيادهما، والتحول من دولتين تسعيان لنشر السلام في العالم ووسيطين دوليين لحل الأزمات المستعصية إلى دول ترفع من مستويات الدفاع والتسلح وتخصص المليارات لصفقات السلاح؟.

وللسويد تحديدا تاريخ طويل في الحياد والمشاركة في إحلال السلام في بقاع مختلفة من العالم، فقد انضمت إلى “الشراكة من أجل السلام” في 9 مايو 1994، وهو البرنامج الذي استحدثته منظمة حلف شمال الأطلسي بهدف ترسيخ الثقة بين الدول الأعضاء في “الناتو” وغيرها من الدول في أوروبا، بما في ذلك دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، حيث ينطوي البرنامج على ستة مجالات للتعاون، يهدف كل منها إلى بناء علاقات مع الشركاء من خلال توظيف التعاون العسكري في التمرين والتدريبات والتخطيط للكوارث والاستجابة لها، والقضايا العلمية والبيئية، والتأهيل المهني، وتخطيط السياسات، والعلاقات مع الحكومة المدنية.

ومنذ ذلك الحين، كانت أقلية من سكان السويد تؤيد عضوية “الناتو”، لكن مسألة العضوية زادت شعبيتها بعد اندلاع الأزمة بين روسيا وجارتها أوكرانيا قبل 16 شهرا، لتتقدم بطلب للانضمام إلى المنظمة في الثامن عشر من مايو 2022، خاصة مع تنامي شعور السويديين بأنهم مهددون أمنيا في السنوات الأخيرة.

وظهرت المخاوف العسكرية للسويد في عام 2013 عندما تمكنت الطائرات القاذفة الروسية من محاكاة هجوم على ستوكهولم، واحتاجت ستوكهولم آنذاك إلى مساعدة “الناتو” لدرئها، وبعد عام ذهل السويديون بالتقارير التي تفيد بوجود غواصة روسية في المياه الضحلة لأرخبيل ستوكهولم، قبل أن تتلقى الأسر في عام 2018 كتيبات عسكرية بعنوان “إذا حدثت أزمة أو حرب”، وهي المرة الأولى التي تم إرسالها لهم منذ عام 1991.

وتصل القدرات العسكرية السويدية إلى نحو 57 ألف عسكري، بين مجند وضابط في مختلف الرتب، وأعادت البلاد التجنيد بداية من عام 2018 بعد تعليقه عام 2010، وسط تقديرات بارتفاع العدد الحالي إلى 6 آلاف مجند سنويا و8 آلاف مجند عام 2025.

وتأتي هذه التطورات على عكس ما عاشته السويد في حقبة التسعينات عندما قلصت حجم جيشها، وغيرت أولوياتها من الدفاع الإقليمي إلى مهام حفظ السلام في جميع أنحاء العالم، لكن ذلك تغير مع الحرب الروسية في شبه جزيرة القرم عام 2014 وتزايد التهديدات الأمنية في منطقة البلطيق.

وربما كانت السويد محايدة أثناء الحرب الباردة، لكنها احتفظت في ذلك الوقت بقوة لا تقل عن 15 ألف جندي في جزيرة “جوتلاند” في البلطيق، وأعادت مؤخرا بناء وجودها هناك، وهي تأمل الآن في بناء وحدة لجيشها المتفرغ وكذلك قوتها المجندة في السنوات المقبلة.

وينظر العديد من المتشككين في حلف “الناتو” إلى الوجه الآخر للسويد إبان الفترة الممتدة بين الستينيات والثمانينيات، عندما استخدمت حيادها لوضع نفسها كوسيط دولي بارز، معتبرين أن انضمامها إلى شمال الأطلسي سيكون بمثابة التخلي عن هذا الحلم الذي عاشت فيه لثلاثة عقود وأكثر.

أما بالنسبة لفنلندا، البلد الآخر في أقصى شمال أوروبا، فقد أعادت الحرب الروسية الأوكرانية لعدد من مواطنيها شعورا مؤلما، مستذكرين دخول القوات السوفييتية آنذاك في أواخر عام 1939 البلاد، وبقوا فيها لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يشن الجيش الفنلندي مقاومة شرسة على الرغم من تفوق الجيش السوفييتي عدديا بشكل كبير، إلا أن هلنسكي وباقي المدن صمدت حتى مارس 1940 قبل أن تخسر مقاطعة “كاريليا” الشرقية في خطة لتجنب الاحتلال، لكن المد السوفيتي أجبر الفنلنديين على خسارة 10 في المئة من أراضيهم.

وتعيد مشاهد الحرب في أوكرانيا إحياء تاريخ أليم بالنسبة للفنلنديين، فقد كانوا ينظرون إلى الشريط الحدودي لبلادهم مع روسيا، والذي يبلغ طوله 1340 كيلومترا، وهم يتساءلون عما إذا كان مصيرهم، في حال مزيد تشعب الأحداث، سيكون شبيها بالوضع الأوكراني؟.

ويتمتع المجندون الفنلنديون، في بلد يبلغ عدد سكانه 5.5 مليون نسمة، بتدريب عال، حيث يتدرب سنويا ما لا يقل عن 21 ألف مجند، ولدى البلاد قوة احتياطية تبلغ 900 ألف جندي، لذلك تقدر قوتها في زمن الحرب بـ280 ألفا.

وكان الفنلنديون مستعدين للعضوية في التحالف العسكري بعد سلسلة من الخطوات الصغيرة تجاه “الناتو” منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، ففي عام 1992، اشترت هلسنكي 64 طائرة مقاتلة أمريكية، وبعد ثلاث سنوات انضمت إلى الاتحاد الأوروبي إلى جانب السويد، وقامت كل حكومة فنلندية منذ ذلك الحين بمراجعة ما يسمى بخيار “الناتو”.

ووصلت فنلندا بالفعل إلى هدف الإنفاق الدفاعي المتفق عليه لحلف “الناتو”، البالغ 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ووضعت السويد خططا لتحقيق ذلك بحلول عام 2026.

وبعد عام من المفاوضات والتحفظ التركي على انضمام السويد إلى”الناتو”، وافقت أنقرة أخيرا على طلب الدولة الإسكندنافية، بعدما قالت إنها حصلت على تعهدات من ستوكهولم والغرب بتحقيق شروطها، وبعدما وافقت قبل أشهر على انضمام فنلندا إلى التحالف العسكري، ظلت هي والمجر الدولتين الوحيدتين في الحلف اللتين تعارضان عضوية السويد، رغم إعلان السلطات السويدية أنها قامت بما يتوجب عليها بموجب اتفاق مدريد الثلاثي، بما في ذلك تعديل دستورها واعتماد قانون جديد لمكافحة الإرهاب، وتسليم مطلوبين لأنقرة، إلا أن الأخيرة ترى أن تعديل القوانين لا يكفي.

وبعد تمسك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بموقفه من عضوية السويد في حلف “الناتو” حتى اللحظات الأخيرة، إلا أنه وافق بالأمس في قمة “فيلنيوس” على المطلب الذي يدعمه الغرب، وبفضل هذه بالموافقة “المتأخرة”، استطاعت تركيا أن تحصل على الحد الأعلى مما يمكن تحصيله في مثل هذه الظروف، بعدما شكلت عملية انضمام السويد إلى الحلف فرصة ذهبية لأنقرة للمناورة في عدة اتجاهات، أسفرت عن العديد من المكاسب، على رأسها إظهار تركيا كدولة تعاني من الإرهاب وتحاربه، والتسليم بذلك من قبل الدول الأوروبية وحلف شمال الأطلسي.

وأصدرت كل من تركيا والسويد و”الناتو” بيانا ثلاثيا مشتركا عقب القمة الثلاثية، تعهدت فيه السويد بمحاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره وعدم دعم التنظيمات التي تصنفها تركيا على قوائم الإرهاب، لاسيما تنظيم حزب العمال الكردستاني، في خطوة اعتبرت إقرارا غربيا بوجهة نظر أنقرة تجاه هذا التنظيم بعد نزاع بشأنه.

وأشار البيان الثلاثي إلى أن تركيا والسويد اتفقتا على مواصلة التعاون في إطار كل من الآلية الثلاثية المشتركة الدائمة التي أنشئت في قمة الحلف بالعاصمة الإسبانية مدريد عام 2022، وآلية أمنية ثنائية جديدة تشكل مجموعات عمل مناسبة وتجتمع سنويا على المستوى الوزاري، فضلا عن تقديم السويد خلال الاجتماع الأول للجنة الأمنية خارطة طريق للتنفيذ الكامل لجميع بنود المذكرة الثلاثية، بما في ذلك المادة 4 كأساس لمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره.

وبالعودة إلى مسألة الحياد السويدي الفنلندي، فقد كان أول رد فعل سريع ظهر على سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، عقب إعلان الموافقة على انضمام السويد إلى “الناتو”، حيث أعرب عن دهشته حيال قرار فنلندا والسويد بالتخلي عن وضعهما المحايد ومميزاته، مقابل الانضمام إلى الحرب ضد روسيا، مؤكدا أن بلاده “تعرف الخطوات التي يجب اتخاذها لضمان أمنها”.

وأوضح أن هذه التدابير ستعتمد على نوع البنية التحتية العسكرية المنتشرة في هذين البلدين، مشددا على أنه “سيتم ضمان جميع المصالح الأمنية المشروعة لروسيا التي تمتلك التدابير المناسبة، وتعرف ماهية هذه التدابير وكيفية تنفيذها عمليا”، لكن السؤال الأبرز يبقى هل تتأثر العلاقات التركية الروسية بموافقة أنقرة على عضوية السويد في “الناتو”، وهل سيشهد التقارب بين البلدين على مدى السنوات الطولية الماضية منحى آخر غير الذي عهده العالم في السابق؟.

ولكن إجابة “الكرملين” عن هذه التساؤلات لم يتأخر ولم يدخل في نطاق التأويلات والتحاليل، بل سارع دميتري بيسكوف متحدث الرئاسة الروسية، خلال مؤتمر صحفي بالأمس، بالتأكيد على تفهم بلاه للقرار التركي بإحالة بروتوكول انضمام السويد لـ”الناتو” إلى برلمانها من أجل المصادقة عليه، مشيرا إلى أن تركيا بصفتها عضوا في الحلف ملزمة باشتراطات “الناتو” “وروسيا تعي كل شيء جيدا”، غير أنه أكد، في ذات الوقت، أن انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي سيكون له تداعيات سلبية على أمن بلاده، وأن موسكو تعتزم اتخاذ إجراءات مماثلة لتلك التي اتخذتها في سياق انضمام فنلندا إلى الحلف.

وفي خضم هذه التطورات العسكرية والجيوسياسية والاستراتيجية المتسارعة، على حد سواء، تبرز تساؤلات عدة، لعل أبرزها هل يمكن للسويد، بعد 200 عام من الحياد، وعقب دخولها مظلة الدفاع المشترك وإسهامها وفنلندا في توسع تاريخي لعضوية “الناتو”، أن تدخل حربا تعد هي الأولى من نوعها بعد قرنين من حملها لواء السلام حول العالم؟.. وما تأثير الانضمام على وضعها وعلاقتها مع بقية جيرانها من الدول الإسكندنافية؟.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى