المساجد في الولايات المتحدة .. مراكز للترابط وإحياء شعائر الإسلام
تعد المساجد في الولايات المتحدة الأمريكية أحد أهم المنافذ التي يعيش من خلالها المسلمون أجواء شهر رمضان الفضيل بكل تفاصيله، ويوجد بالولايات المتحدة نحو ثلاثة آلاف مسجد موزعة على مختلف الولايات، تتركز بشكل خاص في المدن التي يوجد بها عدد كبير من الجاليات العربية والمسلمة، وبحلول الشهر الفضيل تتحول المساجد في المدن الأمريكية إلى مراكز حيوية للتجديد الروحي والتعبير عن التراث الثقافي للجاليات المسلمة المنتشرة في كل ركن من أركان البلاد.
وفي هذا الشهر الفضيل، تتألق المساجد بدورها البارز كمراكز للتجمع والعبادة، حيث تنعكس تفاصيل التقاليد والعادات الدينية بألوانها المختلفة، من قلب مدينة نيويورك إلى أرجاء العاصمة “واشنطن دي سي”، حيث تشهد المساجد أنشطة دينية واجتماعية مميزة تجسد التلاحم والتواصل بين أفراد المجتمع المسلم، والمجتمع الأمريكي بشكل عام، وفي هذا السياق، تبرز المساجد كمراكز حيوية للأنشطة الثقافية والروحانية، حيث يلتقي فيها المسلمون لأداء الصلوات الجماعية والمشاركة في إفطارات رمضان مع بقية أفراد الجالية.
قال محمود غدير إمام وخطيب مسجد الشيخ عبد القادر إدريس بمدينة سياتل بولاية واشنطن: “إن المساجد في الولايات المتحدة ليست مجرد أماكن للصلاة، بل هي مراكز للتعلم والتواصل الاجتماعي، حيث تعزز الروابط بين المسلمين والمجتمع الأوسع، وتلعب دورا مهما في تقوية هويتنا الإسلامية”.
وأضاف أن المساجد تقدم أيضا برامج تعليمية ودورات تثقيفية للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء، وتشجع هذه المبادرات على تبادل الثقافات والفهم المتبادل، مما يسهم في تقوية الروابط بين مختلف المجتمعات في أمريكا، وتظهر المساجد كمراكز شاملة للتعلم والتواصل الاجتماعي، حيث يلعب المجتمع المسلم دورا فعالا في الحياة الثقافية والاجتماعية للبلاد.
وفي ظل تزايد تأثير الجاليات المسلمة في الولايات المتحدة وتوسعها خلال السنوات الماضية، أصبح للمساجد دور بارز في تحديد الهوية الثقافية والروحية للمسلمين في هذا البلد الكبير.
ووفقا للإحصائيات، يتواجد في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب من 3000 مسجد، وهذا العدد يعكس تنوعا هائلا في الأماكن التي يتواجد فيها المسلمون.
وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى منها قد بنيت منذ منتصف القرن العشرين فصاعدا، فإن المساجد ليست جديدة على المشهد الأمريكي، وتشير بعض الدلائل إلى أنه ربما تم بناء مساجد صغيرة من قبل المسلمين الذين وصلوا مع الغزاة الإسبان في القرن السادس عشر، وبعضها يعود تاريخ بناء المساجد فيها لعام 1929؛ بمدينة روس في داكوتا الشمالية، وتتركز المساجد في المراكز الحضرية الكبرى مثل نيويورك وكاليفورنيا.
ويحتل الإسلام المرتبة الثانية كأكبر ديانة في الولايات المتحدة. ويعتبر المركز الإسلامي في واشنطن أكبر مكان للعبادة في نصف الكرة الغربي، يقصده نحو 600 مصل لأداء صلاة الجمعة، وقد تم إنشاؤه في عام 1944، وتم بناؤه وافتتاحه في يونيو 1957، وزاره العديد من الشخصيات الرفيعة، بما فيهم العديد من الرؤساء؛ أبرزهم الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش في 17 سبتمبر عام 2001، بعد أيام من هجمات 11 سبتمبر 2001، ويضم المركز مسجدا ومكتبة وفصولا لدراسة الإسلام واللغة العربية. وتحظى العاصمة الأمريكية “واشنطن دي سي” بتنوع ثقافي يتجلى في احتفالات رمضان، حيث يلتقي المسلمون من جميع الجنسيات، وتجمع الإفطارات الجماعية والمحاضرات الدينية بين الثقافات المختلفة، مما يؤكد على وحدة المجتمع المسلم.
وفي نيويورك تتحول المساجد مثل “مسجد مالكولم شباز” إلى مراكز للتجمعات الدينية، حيث يشارك المسلمون في صلوات التراويح والإفطارات الجماعية، في شوارع المدينة، ويمكن رؤية الموائد الرمضانية المنتشرة في مطاعم الحي العربي، حيث تعج الأجواء بأصوات التراويح وروائح الأطعمة التقليدية، وتشتهر فيلادلفيا بتاريخها الأمريكي العريق، وكذلك بجاليتها المسلمة المتنوعة، وتتجلى أجواء رمضان في المدينة من خلال الأنشطة الروحانية والثقافية، حيث يحرص المسلمون على إحياء ليالي رمضان بالصلاة والذكر، وتنظيم الإفطارات الجماعية التي تتميز بتنوعها الثقافي وتجمع بين المأكولات العربية، والإفريقية، والجنوب آسيوية.
ويقول سليم عبدالله أحد سكان مدينة نيويورك: “كل عام ننتظر شهر رمضان، حيث تتحول المساجد في الشهر الفضيل لإحدى أهم وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة لكونها مراكز للعبادة، يجتمع فيها المسلمون لأداء الصلوات الجماعية والمشاركة في الأنشطة الروحانية. ومن ناحية أخرى تجذب المساجد الزوار غير المسلمين؛ لكونها تتألق بالتفاصيل المعمارية الجميلة والتصميم الذي يعكس تاريخا عظيما وحضارة متنوعة”.
وأضاف: “الليالي وسط مساجد نيويورك بشكل عام لها طعم خاص وتذكير بأهمية شعائر الإسلام في الشهر الفضيل، الأمر الذي نفتقده هنا، وسط الزحام عادة ما تضيع العادات والتقاليد الدينية الراسخة، ويأتي الشهر الكريم فرصة لتذكير الأجيال بأهميتها. وتشهد الليالي الرمضانية هنا تلاحما وتفاعلا فريدا، حيث تجمع الصلوات والتراويح الناس من جميع الأعمار والخلفيات، وتضفي الإفطارات الجماعية لمسة خاصة من التلاحم، بجلوس الأسر والأصدقاء على موائد الإفطار المشتركة، مشاركين في فرحة نسمات هذا الشهر المبارك”.
وتضم مدينة ميتشغان أحد أهم المساجد وهو مسجد الرحمة، الذي يشتهر بتصميمه الفريد والفاخر وله شعبية خاصة وسط المسلمين، ويضم مركزا لتدريس القرآن والفقه والحديث، بالإضافة إلى اللغة العربية، وفي غرب الولايات المتحدة الأمريكية يقع مسجد الفاروق عمر بالقرب من جامعة جنوب كاليفورنيا، يحضر الصلاة فيه آلاف المصلين يوميا، على مساحة 5.2 فدان، بالإضافة إلى ذلك يعتبر المسجد مركزا متكاملا يوفر العديد من الخدمات الدينية والاجتماعية للمسلمين، بما في ذلك صلاة الجمعة، والأعياد الإسلامية، ودروس القرآن، والفقه.
وتعتبر بوسطن مدينة ذات ثقافة غنية وتاريخ عميق، ويظهر ذلك جليا في كيفية احتفال المسلمين برمضان، وتنظم المراكز الإسلامية والمساجد فعاليات تعليمية وروحانية، بما في ذلك مسابقات حفظ القرآن والمحاضرات الدينية، ويشارك أفراد الجالية المسلمة، خاصة الشباب، في تنظيم أنشطة توعوية وخيرية خلال الشهر الفضيل.
ويبرز في مناطق تاريخية أخرى مثل شيكاغو وديترويت، البعد الروحاني لرمضان في شكل الأعمال الخيرية والتجمعات الدينية، وتنظم الإفطارات في الحدائق العامة والمراكز الاجتماعية، وتتميز بروح التآخي والتضامن، وبالإضافة للمساجد أعلاه تبرز العديد من المساجد والمراكز الإسلامية في الولايات المتحدة؛ من بينها مسجد الرحمة في ميتشغان، ومركز الشيخ زايد في مدينة فورت لودرديل في ولاية فلوريدا، ومسجد المدينة الإسلامية في مدينة نيويورك، ومركز بلومنغتون الإسلامي في مدينة بلومنغتون في ولاية إلينوي، ومسجد مسلمي ديترويت بمدينة ديربورن.
وتعد الجالية العربية الأمريكية جزءا لا يتجزأ من نسيج المجتمع الأمريكي، وقد لعبت دورا مهما في تاريخ البلاد، ويكشف تاريخ المساجد القديمة في أمريكا عن جذور هذه الجالية وتطورها على مر السنين.
ويقول محمد إسلام أمريكي من أصول هندية: “إن تاريخ المساجد في الولايات المتحدة يروي حكاية الصمود والاستمرارية للجاليات المسلمة في هذا الوطن، وهي ليست مجرد مبان دينية، بل هي شاهدة على الإرادة والتفاني في الحفاظ على الهوية الدينية والتواصل الاجتماعي للمسلمين هنا في أمريكا، وكل مسجد هنا تحمل جدرانه قصة تاريخية تعكس التنوع والتطور المستمر للإسلام في الولايات المتحدة”.
وتحمل المساجد في الولايات المتحدة دورا ثقافيا واجتماعيا مهما، يتجاوز مجرد أماكن لأداء الشعائر الدينية؛ لكونها مراكز حضارية تسعى جاهدة لتعزيز التواصل وبناء جسور الفهم بين المسلمين والمجتمع المحيط، ويتم ذلك من خلال استضافة العديد من الفعاليات الثقافية والتعليمية، حيث تقوم المساجد بدور محوري في نشر الوعي والتفاهم بين أعضاء الجاليات المختلفة، أحد هذه المناسبات هو شهر رمضان الفضيل، حيث يعتبر الإفطار الجماعي فرصة لتبادل التجارب وتوطيد الروابط الاجتماعية، ويجتمع المصلون للتفاعل بشكل أعمق وتحقيق تواصل يتجاوز الحدود الدينية.
وأشار محمد نعمان، يمني أمريكي، إلى أن المساجد في الولايات المتحدة تشكل ركيزة أساسية تتجاوز كونها أماكن لأداء الصلاة إلى مراكز حضارية تعزز التواصل بين المسلمين، وفي الوقت ذاته تحمل تاريخا عميقا يعكس رحلة المسلمين في هذا البلد، وشاركت في تعزيز الروابط بين المسلمين والمجتمع الأمريكي على مر العقود، مما يجعلها ليست فقط مكانا للصلاة، بل ومركزا تاريخيا يشهد على تطور الهوية الإسلامية في أرجاء الولايات المتحدة.
من جانبه، قال مرزوق خان إمام مسجد القدس في مدينة جرينزبور بولاية نورث كارولينا: “إن رمضان في الولايات المتحدة ليس للصيام والعبادة فحسب، بل هو وقت لتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية بين المسلمين ومجتمعاتهم، ويعكس هذا التنوع الثقافي والروحاني في الاحتفال برمضان في المدن التاريخية الأمريكية الغنى والتعددية الدينية التي تتمتع بها الولايات المتحدة”.
ويظهر بوضوح دور المساجد كمحاور حضارية وروحية في قلب الولايات المتحدة، حيث تمثل ركنا أساسيا للتواصل الثقافي والتبادل الاجتماعي وجسورا تربط بين مختلف الطوائف والثقافات، وتأثيرها الثقافي والاجتماعي يعكس التزام المسلمين بتقديم إسهامات إيجابية، وتعزيز فهم أعمق حول التنوع والتسامح في المجتمع الأمريكي، وبهذا، يبرز دور المساجد كعناصر لا غنى عنها في نسيج الحياة اليومية والتنوع الثقافي للولايات المتحدة.