أدب و أدباء - تحرره نوال شلباية

سائقة «التوكتوك» .. بقلم / سوسن حمدي

في موعد لها عند الشروق تعرفه، وعند صياح الديكة لدى ارتفاع الشمس في الأفق تبدأ رحلتها اليومية مع أوانيها القليلة في مطبخها الضيق حيث تجهيز وجبتي الإفطار والعشاء لأطفالها الصغار .
تستيقظ ابنتها “سعاد ” عند سماع صوت الموقد حين يشتعل، تحاول مساعدتها، ثم تحتضنها عند مغادرتها قبل أن توصيها بأخواتها لحين عودتها في المساء.
وخلف الباب المغلق كانت ترتدي عباءة زوجها المهاجر، وتحكم لف (اللاسة) فوق شعرها البني المتساقط، وحول أنفها، مخفية جزءا كبيرا من وجهها حتى لا يعرفها أحد.
تسارع الخطى نحو معيلها ومصدر رزقها، تكشف عنه الغطاء ببطء وهي تمسح ظهره قبل أن تجلس أمام المقود وتدير موتور التوكتوك، وتتحول من أم سعاد إلى عم توكل.
لم يعرف أهل قريتها سر سائق التوكتوك الملثم الذي ظهر فجأة وهو يرتدي جلبابه الرمادي الطويل ولاسته البيضاء التي تغطي رأسه ومنتصف وجهه، ربما لأنها تعمدت ألا يكشف أحد سرها، ويهنيها ويتعرض لها بسوء هي وبناتها بعد طلاقها.
كانت المخدرات والحشيش هي سبب شقائها في هذه الحياة، حين تعرف زوجها مبكرا على أصدقاء السوء، وبدأ يغيب عن عمله في مصنع الألبان، حيث كانت تمتد سهراته إلى تباشير الصباح، ثم يعود متأخرا يلقي عليها غضبه حين تطلب منه شيئا، وتسأله أين ذهبت الأموال التي يتقاضاها ؟
كان يجيبها بالشجار والصياح، وأحيانا بالركلات، ثم لم تجد حلا سوى الطلاق بعدما بات يبتعد عنها بالأيام والشهور.
ظلت متمسكة به طويلا، بأمل عودته وصلاح حاله، وانتباهه إلى بناته الثلاثة، ثم سقط منها اَخر أمل في عودته حين سمعت عن علاقته بامراَة أخرى.
وتحت الإهانة والصدمة، والتعود على الغياب بات طلاقها أمرا هينا، ولم يبق سوى طلبه من المحكمة بعدما ابتعد عنها دون أن تعرف وجهته.
وانطلقت بمعاشها القليل الذي صرفته لها الحكومة، وما تبقى لها من عزيز تملكه تشق طريقها في الحياة .
لم يلتفت إلى وحدتها أحد، لم تنتبه عين لتلك الدموع التي كانت تتجمع في مقلتيها عند رؤيتها لزوج يصطحب زوجته وأولاده، وهي تلعن في سرها الحشيش والطلاق الذي فرقها عن زوجها .
ولأنها لا تملك سوي كرامتها فقد هانت عليها أنوثتها وهي ترتدي ثوب الرجال، كي تنزع عنها خوفها من هذا العالم، وتتدثر بآخر قناع للحماية تركه لها زوجها بعد أن عزَّ عليها الأمان.
يشير لها أحدهم يطلب منها مصاحبته إلى المستشفى مع زوجته التي أوشكت على الولادة.
تومئ برأسها وهي تدير المحرك، لا تحاول الكلام كثيرا حتى لا ينكشف أمرها، وبداخلها تتساءل: هل صحبها زوجها ذات مرة أثناء الولادة أم كان يتركها لمصيرها المحتوم متعللا بأعماله الكثيرة؟!
لم يكن هناك وقت للتذكر حتى لا تفقد تركيزها، خاصة مع خروج الناس لأعمالهم وتكدس الطريق أمامها.
حين عرضت أمر شراء التوكتوك على زوج أختها وطلبت منه مساعدتها في تعلم القيادة نصحها بألا تسرع، حتى لا تقع في الخطأ، وأن تحاول عدم اصطدامها بأحد حتى لو أخطأ، لأنها لن تستطيع مجاراة سبابه وشتائمه.
وهكذا انخفض سقف أحلامها إلى الدعاء بأن يمر اليوم دون مشاكل، وألا يعرف أحد هويتها، حتى لا يجرحها مثلما فعل بها الزمن، وأن تمتلك نقودا في اَخر اليوم كي ترجع لبناتها بضروريات الحياة .
مالت الشمس نحو المغيب، وخفتت حدتها أخيرا في هذا النهار القائظ من أيام شهر يوليو، وتنسمت بعض الهواء الرطب الذي دغدغ حواسها، ما جعلها تزيح الغطاء قليلا عن وجهها حين رأت زوجها السابق يقف أمامها يحملق فيها بذهول.
تلاقت أعينهما لدقيقة أو يزيد، لم يستطع أحدهما الحديث فما كان منها إلا أن لفّت اللاسه حول وجهها من جديد وهي تنطلق بعيدا عنه.
لم تخلع عباءتها أمام الباب كما اعتادت في كل مرة، بل وجدت نفسها أمام بناتها بزيها الرجالي، لتقوم بكشف شعرها لتسمح لأنوثتها بالظهور.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى