تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: الحرب تنشب بين أنصار الأمين !

تجددت آمال محمد الأمين في أن يستعيد زمام الأمور من خلال داهية بني العباس عبدالملك بْن صالح الذي سار إلى الشام، فلما بلغ الرقة أقام بها، وأنفذ رسله وكتبه الى رؤساء أجناد أهل الشام بجمع الرجال بها، لحرب طاهر بن الحسين.

لم يبق أحد ممن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته، فقدموا عليه رئيسا بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة، فكان لا يدخل عليه أحد إلا أجازه وخلع عليه وحمله، فأتاه أهل الشام الزواقيل والأعراب من كل فج (الزواقيل قوم كانوا يعيشون علي أطراف الجزيرة).

ثم حدثت حادثة بسيطة أفسدت الأمر كله علي عبد الملك بن علي، عندما نشب خلاف بين بعض «الزواقيل» وبعض جند خراسان، وفي غياب العقلاء والحكماء تحول الخلاف إلي قتال، رغم أنهم جميعا ينتمون الي جيش واحد ومن المفترض أنهم سيكونون رأس حربة الأمين في صراعه الدموي مع طاهر بن الحسين.

ومشي الجند الخراسانية إلى محمد بن أبى خالد، فقالوا له كما جاء في تاريخ الطبري: أنت شيخنا وفارسنا، وقد ركب «الزواقيل» منا ما قد بلغك، فاجمع أمرنا وإلا استذلونا، وطمعوا فينا، فقال: ما كنت لأدخل في شغب، فلم يلتفتوا الي كلامه وأتوا «الزواقيل» فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وذبحوهم في رحالهم، وتنادى «الزواقيل»، فركبوا خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، ونشبت الحرب بينهم وبلغ ذلك عبد الملك بْن صالح، فوجه إليهم رسولا يأمرهم بالكف ووضع السلاح، فرموه بالحجارة، واقتتلوا يومهم ذلك قتالا شديدا، وأكثر الخراسانيون القتل في «الزواقيل»، فأخبر عبد الملك بكثرة من قتل- وكان مريضا مدنفا- يعني مشرفا علي الموت فضرب بيده على يد، ثم قال: واذلاه! تستضام العرب في دارها ومحلها وبلادها!.

كان عبد الملك في ذلك الوقت شيخا طاعنا في السن وزاده المرض ضعفا علي ضعف، ومع انفراط عقد رجاله ومن كان يراهن عليهم ووقوع الخلاف والقتال بينهم انقلبت الأمور رأسا علي عقب، خاصة أن كلامه لم يعجب بعض الخراسانية الذين لم يغمسوا أنفسهم في القتال ورأوا أن كلام عبد الملك فيه انحياز لأهل الجزيرة من «الزواقيل»، فساروا إلي حسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، وهو ابن أول قائد أرسله الأمين لقتال طاهر بن الحسين وتحدثنا عنه باستفاضة في الحلقات الماضية.

وأصبح «الزواقيل»، فاجتمعوا بالرقة، واجتمع أهل خراسان بالرافقة (مدينة قرب سوريا)، وقام رجل من أهل حمص، فقال: يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل، إنكم بعدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة! ألا وفي الشر وقعتم، وإلى حومة الموت أنختم، النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل!

وقام رجل من قبيلة كلب فقَالَ: يا معشر كلب، إنها الراية السوداء (يقصد راية أهل خراسان التي زحفوا بها علي الأمويين وقضوا علي دولتهم )، والله ما ولت ولا عدلت ولا ذل ناصرها، ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم، اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي.

ثم سار وسار معه عامة أهل الشام، وأقبلت «الزواقيل» حتى أضرموا النار فيما كان التجار جمعوا من الأعلاف، وأقام الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان مع جماعة أهل خراسان حاجزا عند باب الرافقة تخوفا من طوق بْن مالك أحد فرسان قبيلة تغلب وأبطالها، فأتى طوقا رجل من بني تغلب، فقال: ألا ترى ما لقيت العرب من هؤلاء! انهض فإن مثلك لا يقعد عن هذا الأمر، قد مد أهل الجزيرة أعينهم إليك، وأملوا عونك ونصرك، فقال: والله ما أنا من قيسها ولا يمنها، ولا كنت في أول هذا الأمر لأشهد آخره، وإني لأشد إبقاء على قومي، وأنظر لعشيرتي من أن أعرضهم للهلاك بسبب هؤلاء السفهاء من الجند وجهال قيس، وما أرى السلامة إلا في الاعتزال ،وأقبل نصر بْن شبث في «الزواقيل» على فرس، وفي يده رمح وترس، وهو يقول:

فرسان قيس اصمدن للموت .. لا ترهبنى عن لقاء الفوت.

وكان نصر بن شبث من سادة بني عقيل وفرسانهم وكان شديد التعصب للعرب، فحمل هو وأصحابه، فقاتل قتالا شديدا، لكن النصر كان للجند الخراسانية الذين أكثروا القتل في «الزواقيل» وأهل الشام .

( كان الواقع الذي يعيشه محمد الأمين مريرا ولسان حاله يتماشي مع قول الشاعر:

وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لاتنفع .

فعندما اختار جيشين لقتال طاهر نجح طاهر في خداع الجيشين وبث الجواسيس فيهما والإيقاع بينهما حتي انتصر عليهما دون قتال، وعندما راهن علي شيخ بني العباس وداهيتهم عبد الملك بن صالح، خسر الرهان لأن عبدالملك كان شيخا طاعنا في السن وعلي مشارف الموت، ولم يعد في مقدرته صحيا وذهنيا أن ينقذ الأمين او يعيد له الأمل خاصة بعد أن دبت الخلافات بين رجال عبد الملك وسرعان ماتحولت الخلافات الي حرب ضروس بين الجند الشامية والجند الخراسانية، ثم مات عبد الملك بن صالح في نفس العام الذي تولي فيه إمرة الشام والجزيرة، لتتبخر أحلام الأمين في استعادة زمام الأمور من جديد).

ثم توالت الكوارث علي الأمين بعد أن أقدم الحسين بن علي بن عيسي بن ماهان علي خلع الأمين وحبسه مع أمه زبيده.

فلماذا أقدم الحسين علي هذه الخطوة ؟

وهل نجا الأمين منها ؟

نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى