مروان .. يحكم قبضته علي الشام ومصر
كان الضحاك بن قيس قد بايع ابن الزبير وأدخل جزءا كبيرا من أراضي الشام في طاعة ابن الزبير، ولم يكن الضحاك شخصية هينة فقد كان شيخ قبائل القيسية، وكان صاحب شرطة معاوية ووالي دمشق، يعني كان من رجالات البيت الأموي، ولا أحد يعرف علي وجه الدقة سر انقلابه علي البيت الأموي، وقد كان أحد أهم أركانه؟ .. هل لزوال ملك البيت السفياني الذي كان يدين له بالولاء، أم لأنه رأي أن عبد الله بن الزبير في سنه وفضله ومكانته الأحق بالخلافة؟.
أيا كانت الأسباب فقد أصبح حجر عثرة في طريق مروان بن الحكم، وكان من الطبيعي أن يحتكم الإثنان إلي السيف، لكن كيف السبيل إليه ومعه جيش ضخم عماده رجال القيسية وهم مشهورون بالشجاعة والفروسية، وجيش مروان صغير العدد، وجاء الرد علي هذه الإشكالية من عبيد الله بن زياد أحد قواد مروان بأن الحرب خدعة، والخلاص من الضحاك سيكون بالحيلة لا المواجهة المباشرة.
التقي الاثنان، مروان والضحاك، في موقعة مرج راهط بالشام، وغاب عبد الملك بن مروان عن هذه المواجهة ورعا وخوفا من الغوص في دماء المسلمين ! (خاف عبد الملك الفقيه من الدماء ولكن عندما جاءه الملك غاص في بحر من الدماء !!).
نعود إلي عبيد الله بن زياد الذي أوهم الضحاك بهدنة حتي تنجلي الأمور ولا نعرف كيف لرجل خبير مجرب عركته الأحداث والتجارب والمواقف مثل الضحاك تنطلي عليه خدعة ابن زياد شيطان الإنس وصاحب الجيش الذي قتل الحسين وآل البيت الأطهار في كربلاء؟.
المهم أنه لم تكن هناك هدنة وباغت مروان بجيشه الصغير جيش الضحاك ليلا علي حين غفلة، وكانت مقتلة عظيمة للقيسية لم تسقط من ذاكرتها طوال فترة الحكم الأموي، وجعلت العداوة مستحكمة بعد ذلك بين القيسية و اليمنية أهم أعمدة جيش مروان.
ويروي أن مروان لما جاءه رأس الضحاك ساءه ذلك، وقال: الآن حين كبرت سني ودق عظمي، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض، ويروي أيضا أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط وقال: أبعد ما كبرت وضعفت، صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك، وفي رواية عن مالك قال: قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة، ثم أصبحت فيما أنا فيه من إهراق الدماء!
لكن هذا الندم لم يعقبه تراجع .. فمن يتراجع عن الملك والسلطان بكل مافيهما من وجاهة وسطوة ونفوذ ونشوة تعبث بالرؤوس؟!.
سعي مروان بعد ذلك إلي ضم مصر لدولته بعد أن أخضع الشام كله لسلطانه، فسار إلى مصر لاستردادها من عامل ابن الزبير، عبد الرحمن بن جحدم، وكانت هذه خطوة تدل على ذكاء مروان فلمصر أهميتها الكبيرة، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يعرف قيمة مصر جيدا ويقول عنها إنها تعدل عنده الخلافة، لذلك كان شرطه في مساندته لمعاوية أن تكون مصر له مادام حيا وقد كان.
نعود إلي مروان الذي لم يكن استيلاؤه علي مصر أمرا صعبا ، فمعظم المصريين هواهم مع بني أمية، وبيعتهم لابن الزبير لم تكن خالصة وإنما كانت بيعة ضرورة، وهذا ما يفسر سهولة استيلائه عليها، فقد سار إليها بجيشه، ومعه وليا العهد من بعده خال
د بن يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد، وبعض قادة الشام، مثل حسان بن مالك بن بحدل، ومالك بن هبيرة، كما اصطحب مروان معه ابنه عبد العزيز، ودارت بين مروان وابن جحدم عدة معارك انتصر فيها مروان، وهرب ابن جحدم، ثم جاء إلى مروان طالبًا العفو على أن يرجع إلى مكة فوافق مروان وعفا عنه.
وأقام مروان في مصر شهرين لترتيب الأوضاع، ولما عزم على العودة إلى الشام عين ابنه عبد العزيز واليًا عليها، وكان عبد العزيز قرين أخيه عبد الملك في الحزم والدهاء والفصاحة وقوة الشخصية، وكان أصغر من عبد الملك بعام واحد لكنهما ليسا من أم واحدة.
كان عبد العزيز وقتها في الثامنة والثلاثين من عمره، وأوصي مروان إبنه وصية تدل على حنكة سياسية، وخبرة إدارية كبيرة، خاصة عندما رأي أن عبد العزيز توجس خيفة وأخذته وحشة من بقائه في مصر، فقال لأبيه: يا أمير المؤمنين، كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ .. فقال له: يا بني، عُمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقًا تصفُ لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره، يكن لك عينًا على غيره، ويَنْقَد قومه إليك، وقد جعلت معك أخاك بشرًا مؤنسًا، وجعلت موسى بن نصير وزيرًا ومشيرًا، وما عليك يا بني أن تكون أميرًا بأقصى الأرض، أليس أحسن من إغلاق بابك وخمولك في منزلك؟.
(كلام رجل داهية خبير مجرب متمكن من أمور السياسة والادارة ).
بعد أن رتب مروان بن الحكم، الأوضاع في مصر، عاد إلي الشام، وفي ذهنه خطط كثيرة يسعي لتنفيذها ليحكم سيطرته علي الدولة الإسلامية كلها، نلقي الضوء عليها في الحلقة المقبلة إن شاء الله.