صلاح رشاد .. يكتب: خراب بغداد .. بعد حصار جيوش المأمون
كانت بغداد زينة للناظرين، وعاصمة الدنيا في عهد هارون الرشيد.. فكانت الشوارع نظيفة واسعة وحدائقها يانعة واسواقها عامرة ،وقصورها جميلة فاخرة، وبيوتها انيقة زاهية.
وكان من يزورها ينبهر بجمالها وبهائها ونضرتها ورونقها، ولمَ لا وقد كانت عاصمة الرشيد أعظم ملوك الدنيا في زمنه ،لكن تحولت بغداد إلي مأساة يندي لها الجبين، خاصة بعد أن حوصرت بثلاثة جيوش للمأمون، جيش طاهر بن الحسين، وجيش هرثمة بن أعين، وجيش زهير بن المسيب .
وازداد موقف الأمين سوءا خاصة بعد أن حوصر من جيوش المأمون الثلاثة .
ولم يضيع زهير بن المسيب قائد الجيش الثالث الوقت بل بدأ الحصار مبكرا، ونصب المجانيق والعرادات (آلات حربية كانت تستخدم قديما في حصار المدن من خلال إلقاء الأحجار الثقيلة علي الأسوار لهدمها) وحفر الخنادق، وعاني الناس في بغداد من جيش زهير أشد المعاناة، وكان زهير يتلقي المدد من هرثمة بين الحين والآخر مما كان يقوي موقفه.
ونزل هرثمة نهر بين، (نهر من أنهار بغداد القديمة وكان يقع شرق المدينة) وجعل عليه حائطا وخندقا، وأعد المجانيق والعرادات.
ولما علم الأمين بنزول طاهر الأنبار إشتد غمه وحزنه خاصة أن ما كان في الخزائن من اموال كان قد نفد، فأمر _كما جاء في تاريخ الطبري_ ببيع كل ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم، وحملها لأصحابه وجعل جزءا منها لنفقاته.
ولما اشتدت شوكة طاهر على الأمين، وهزمت عساكره، وتفرق قواده ،كان فيمن استأمن إلى طاهر سعيد بْن مالك، فلحق به، فولاه ناحية الأسواق وشاطئ دجلة، وما اتصل به من الجسور وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمده بالنفقات والفعلة (الفواعلية) والسلاح، فكثر الخراب والهدم حتى ذهبت محاسن بغداد التي كانت زينة المدن وعاصمة الدنيا في عهد هارون الرشيد.
ووصف الشاعر عمرو بن عبد الملك العتري ماجري لبغداد بكلمات تثير الأسي والشجن.
قال العتري :
من ذا أصابك يا بغداد بالعين
ألم تكوني زمانا قرة العين!
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم
وكان قربهم زينا من الزين
صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا
ماذا لقيت بهم من لوعة البين!
أستودع الله قوما ما ذكرتهم
إلا تحدر ماء العين من عيني
كانوا ففرقهم دهر وصدعهم
والدهر يصدع ما بين الفريقين.
واشتد الحصار من جانب طاهر وزهير، وكانت المناطق التي تستسلم لطاهر يتركها ولا يضيق عليها، ومن تحاربه أو تخالفه أو ترفض الدخول في طاعته يشدد الحصار عليها ويحيل حياتها إلي جحيم، وكان يصادر أموال وممتلكات القواد وأمراء البيت العباسي الذين يرفضون الدخول في طاعته، ويصادر أيضا غلاتهم، حيث كانت في متناول أيدي رجاله، فذلوا وانكسروا وانقادوا، وذلت الأجناد وتراجعت عن القتال، إلا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والرعاع وأهل السوق.
وبعد أن دب الوهن والانكسار في بقايا جيوش الأمين من فرط هزائمهم المتلاحقة أمام طاهر بن الحسين، أدرك اثنان من أهم رجالات الأمين وأكثرهم جرأة وشجاعة في الحرب أنه لم يعد هناك أدني أمل في النصر، وأن مواجهة طاهر بمثابة انتحار خاصة أن هزيمة الأمين مؤكدة وأنه يحتاج إلى معجزة.
وكان هذان القائدان هما علي فراهمرد الموكل بقصري صالح وسليمان بْن أبي جعفر من قبل الأمين، ومحمد بن عيسي صاحب شرطة الأمين.
فكتب علي إلى طاهر يسأله الأمان، ويضمن له أن يدفع ما في يده من تلك الأموال ومن الناحية إلى الجسور وما فيها من المجانيق والعرادات إليه، وأنه قبل ذلك منه، وأجابه إلى ما سأل، فسلم إلي طاهر كل ما كان الأمين وكله به، واستأمن إلي طاهر أيضا محمد بْن عيسى صاحب شرطه الأمين، وكان مهيبا في الحرب، فلما استأمن هذان إلى طاهر، أيقن الأمين بالهلاك ورغم ذلك لم يتراجع عن الانهماك في الشهوات والملذات !!!.
وقرر طاهر أن يطرق الحديد وهو ساخن، فكتب إلى القواد والهاشميين وغيرهم بعد أن صادر املاكهم وغلاتهم يدعوهم إلى الأمان وخلع الأمين والبيعة للمأمون، فلحق به جماعة، منهم عبد الله بْن حميد بْن قحطبة الطائي وإخوته، وولد الحسن بْن قحطبة ويحيى بْن علي بْن ماهان ومحمد بْن أبي العاص، وكاتبه قوم من القواد والهاشميين في السر، وصارت قلوبهم وأهواؤهم معه.. كما راسل عبد الله بْن خازم بْن خزيمة وهو من كبار القواد وحذره طاهر من قبض أملاكه واستئصاله فخاف على نفسه وماله، فلحق بالمدائن ليلا في السفن بعياله وولده، فأقام بها ولم يحضر شيئا من القتال فرضي عنه طاهر.
وكان الهرش من قادة اللصوص الذي يحاربون مع الأمين للدفاع عن بغداد ظاهريا، لكن الحقيقة أن كل همهم كان السرقة وترويع الآمنين لأنهم لصوص في الأساس، فكان اللصوص والفسَّاق يسلبون من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الملة والذمة، ووصف الطبري هذه المأساة المروعة، قائلا : فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أن مثله كان في أي بلد من البلدان التي نشبت فيها حروب.
ولما طال ذلك بالناس، وضاقت بغداد بأهلها، خرج عنها من كانت به قوة بعد المضايقة الموجعة والخطر العظيم، ظهر الوجه الإنساني لطاهر وأخذ أصحابه ورجاله بخلاف ذلك، واشتد فيه، وغلظ على أهل الريب والشرور وأمر أحد قواده وهو محمد ابن أبي خالد بحفظ الضعفاء والنساء و وتسهيل أمرهم، فكان الرجل والمرأة إذا تخلص من أيدي أصحاب الهرش، وصار إلى أصحاب طاهر ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من ذهب وفضة أو متاع أو حرير.
وطالت علي الناس معاناتهم وآلامهم ثم اقتربت نهاية الأمين الدرامية والتي كان يستحقها جزاء وفاقا لأعماله وغدره بأخيه.
ونتوقف عند المشاهد الأخيرة في حياة الأمين في الحلقة المقبلة إن شاء الله.