صلاح رشاد .. يكتب: ما بعد دولة «الأمين» .. «الفضل» يحكم
انتهت دولة الأمين سريعا بسبب غدره ونكثه للعهود وبدأت دولة المأمون لكن عودة الأمن والأمان والاستقرار للخلافة العباسية كان يحتاج الي بعض الوقت، خاصة أن المأمون ارتكب خطأ كارثيا عندما ظل في مرو عاصمة خراسان مبتعدا عن مركز دولة الخلافة في بغداد، وهذه المرحلة التي أعقبت مقتل الأمين نستطيع أن نسميها مرحلة الفضل بن سهل، لأنه كان الرجل القوي والمحرك الأساسي للأحداث، وبدا المأمون معه في تلك الفترة كالمحجور.
ونسترجع ما قاله مؤدب المأمون ومعلمه في عهد الرشيد للفضل بن سهل : إن المأمون حسن الظن بك وجيد الرأي فيك وأظنه سيمنحك ألف ألف (مليون) درهم، فغضب الفضل بن سهل من كلام الرجل وقال له : إنني لم أصحب المأمون لأكسب من ورائه مالا قل أو كثر، وإنما ليمضي حكم خاتمي في المشرق والمغرب.
ورأي ابن سهل أن الوقت قد حان ليحكم ويسيطر ويتمكن، خاصة أن خططه وحيله وآراءه السديدة أنقذت المأمون من بطش أخيه في عنفوان قوة الأمين، وكان ابن سهل هو الذي مهد للمأمون الطريق نحو الخلافة، ولولاه لربما تنازل عن ولاية العهد طواعية وارتضي أن يكون مجرد أمير من أمراء البيت العباسي الذين كان عددهم بالآلاف، فقد اجري المأمون إحصاء للأسرة العباسية في عهده فوجدها قد تجاوزت 33 ألف رجل وامرأة.
أراد الفضل بن سهل أن يكرر سيناريو البرامكة مع الرشيد وتناسي مقولة معاوية الشهيرة: إحذر غضب السلطان فإنه يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد.
تناسي ابن سهل نهاية البرامكة الأليمة والمأساوية ويبدو أن شهوة السلطة لا تعمي البصر فقط، وإنما تضع أيضا علي العقل غشاوة فتجعله عاجزا عن رؤية الحقيقة، ومعرفة موطئ قدمي الإنسان وخطورة ما يمضي إليه.
كان الشغل الشاغل للفضل بن سهل أن يجني الثمار من الشجرة التي غرسها وأن يمضي حكم خاتمه في المشارق والمغارب، فجعل ولاية خراسان لغسان بن عباده وهو ابن عمه، وجعل بغداد وكل المدن التي حولها حتي حدود خراسان تحت سلطة أخيه الحسن بن سهل، ولم يكن المأمون يفعل شيئا في تلك الفترة سوي أن يلبي مطالب الفضل ويوافق علي ما يريده.
قد يقول قائل: وأين طاهر بن الحسين من كل ذلك وهو الرجل الذي نجح بسيفه أن يهدم دولة الأمين وينشئ دولة المأمون ؟
نجيب بأن رجلا في دهاء ومكر الفضل بن سهل وحرصه علي أن يهيمن ويسيطر علي مجريات الأمور، كان من الصعب جدا أن يجعل رجلا في قدرات وملكات طاهر الحربية والإدارية قريبا من صناعة القرار، أو مسيطرا علي بغداد عاصمة الخلافة.
أسند المأمون لطاهر ولايتي الشام والجزيرة ولم يكن ذلك إلا لمواجهة خارجي أثار قلقا كبيرا للمأمون، هو نصر بن شبث الذي خرج في الشام مستغلا الحرب الطاحنة بين الأمين والمأمون، واستطاع أن يثبت أقدامه في بلاد الشام التي تكن عداء تاريخيا لبني العباس لأن ولاء الشاميين كان لبني أمية الذين جعلوا الشام حاضرة ملكهم ومصدر فخرهم وقوتهم.
وطلب الحسن بن سهل من طاهر أن يبادر بقتال ابن شبث وهو الأمر الذي أغضب طاهرا وقال : أنا من هزمت خليفة وسقت الخلافة إلي خليفة يطلبون مني مواجهة خارجي، كان الأفضل أن يطلبوا ذلك من أحد قوادي.
شعر طاهر بالغضب الممزوج بالحزن والإنكسار ولسان حاله يقول “بعد كل ما فعلته للمأمون هذا هو جزائي وهذه هي مكافأتي، فيرث الحسن بن سهل شقيق الفضل كل الولايات التي سيطرت عليها بسيفي ودماء جنودي “.
لكن من الواضح أن مشكلة طاهر كانت مزدوجة لأن التضييق عليه كان من طرفي السلطة «المأمون والفضل بن سهل»، فالمأمون لم ينس أن طاهر هو الذي قتل أخاه الأمين دون أن يأمره بذلك صراحة علي الأرجح، لأن طبيعة المأمون الميالة للعفو كانت أبعد من أن تأمر بقتل الأمين خاصة أن الأمين كانت له مواقف راقية في هذه الجزئية بالذات في ذروة الحرب بين الأخوين، فقد رفض أن يستخدم قائده أسد بن يزيد الشيباني ولدي المأمون وسيلة للضغط علي المأمون واجباره علي التنازل، وقال لأسد: أرفع منزلتك عن نظرائك من القادة وأوليك كور الجبال حتي خراسان وتطلب مني سفك دم أهل بيتي، إن هذا لهو التخليط، وأمر بسجنه.
ولا شك أن ذلك الموقف وصل إلي المأمون فقدره في أخيه، ولذلك كان أحرص ما يكون علي احتضان ولدي الأمين الصغيرين عندما أرسلهما طاهر إلى خراسان، وعاملهما بكل أبوة وحنان ولا شك أنه حاول قدر استطاعته أن يخفف عنهما يتمهما المبكر.
وظل طاهر في مرمي غضب المأمون الذي كان من أدهي خلفاء بني العباس، لأنه كان في غضبه يستطيع أن يذبح دون أن يسيل دما، و دون أن يظهر بمظهر الدموي القاتل.
والمشكلة الثانية أن الفضل بن سهل كان يتخوف من طاهر بن الحسين ويريد أن يبعده عن المأمون حتي لا يكون هناك رجل قوي عاقل لبيب وافر المزايا بجوار المأمون غيره.
وهكذا أصبح طاهر بن الحسين بين فكي كماشة، فالمأمون غاضب عليه والفضل بن سهل خائف منه ويسعي للتضييق عليه، ولذلك لم يكن غريبا أن ينهزم طاهر في بعض الحروب أمام نصر بن شبث، فقد كانت الهزيمة متعمدة لأنه لم يظهر الجدية المطلوبة والحزم المعروف عنه، ولسان حاله يقول: ماجدوي الانتصارات إذا كانت الثمار ستذهب لغيري؟.
ورغم دهاء الفضل بن سهل إلا أن ذلك الدهاء غاب عنه عندما صمم علي البقاء في خراسان ومعه المأمون، لأن الدولة لن تدار من مدينة بعيدة علي الأطراف، حتي ولو كان فيها الخليفة لأن مركز السلطة الحقيقي كان في بغداد عاصمة الخلافة، وكلما ابتعد الخليفة لفترة طويلة عن عاصمة دولته أصبح هناك خطر علي مركز السلطة ذاته، وهذا ما حدث بعد ذلك لأن أمراء البيت العباسي وأهل بغداد وجدوا أن المأمون أصبح أسيرا في يدي الفضل بن سهل، وكانوا يصفون الفضل وأخاه الحسن أنهما مجوسيان ومن أبناء المجوس حتي بعد اسلامهما، ولن يسمحوا لهما بالسيطرة علي دولة بني العباس.
أين كان دهاء المأمون وبعد نظره ؟
وكيف يستطيع أن يدير دولة مترامية الأطراف وهو بعيد عن العاصمة، وكيف يمنح الفضل بن سهل كل هذه الصلاحيات التي جعلته يتعامل مع الأحداث وكأنه الخليفة وليس مجرد وزير للمأمون ؟
هذا حديث الحلقة المقبلة إن شاء الله .