تحقيقات وتقارير

صلاح رشاد .. يكتب: هل أمر المأمون .. بقتل الأمين ؟

أغلق طاهر بن الحسين كل أبواب النجاة علي الأمين وقتله شر قتلة، وبعث طاهر برأس محمد الأمين إلى المأمون مع البردة والقضيب والمصلى- وهو حصير من سعف مبطن (السعف هو جريد النخل وورقه اليابسوللمصلي قصة تستحق الذكر لأنها أيضا من ميراث رسول الله صلي الله عليه وسلم .

جاء في كتاب المنتظم في التاريخ للإمام ابن الجوزي أن هذا الحصير كان يصلي عليه الرسول صلي الله عليه وسلم، وكان عند رجل يسمي صالح وارتبط المصلي به، فأصبح صالح صاحب المصلي، وسئل واحد من ذريته وهو محمد بن جعفر بن الحسن بن سليمان بن علي بن صالح عن سبب تسمية جده صالح بصاحب المصلي، فقال : إن جدي كان من أبناء ملوك خراسان وكان ممن جاء مع أبي مسلم الخراساني الي أبي العباس السفاح فقال أبو جعفر المنصور لأبي مسلم: اترك لي بعضا ممن معك من أبناء ملوك خراسان فكان منهم جدي صالح، فلما انتصر أبو مسلم علي عبدالله بن علي عم المنصور وغنم مافي خزائنه وأرسلها إلي المنصور قال لأبناء ملوك خراسان الذين معه: فليختر كل منكم ما يحب من هذه الغنائم، فوجد جدي هذا الحصير وعرف قصته وأنه كان في خزائن بني أمية فاختار الحصير الذي صلي عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال له المنصور: إن ذلك الحصير مكانه خزائن الخلفاء، فقال له جدي: ولكنك قلت فليختر كل منكم ما يحب وقد اخترت هذا الحصير، فشعر المنصور بالحرج فوافق بشرط أن يأتي به جدي في صلوات الأعياد والجمع ليصلي عليه المنصور، وبعد الصلاة كان جدي صالح يأخذ الحصير إلي داره، وظل الأمر كذلك إلي ان مات جدي سليمان بن علي بن صالح في خلافة المعتصم بن الرشيد فصار الحصير في خزائن المعتصم.

هذه قصة المصلي الذي أرسله طاهر بن الحسين مع القضيب والبردة ورأس الأمين إلي المأمون مع محمد بن الحسن بن مصعب ابن عم طاهر، فأمر له المأمون بمليون درهم.

جاء في كتاب “الإنباء في تاريخ الخلفاء لمحمد بن علي المعروف بابن العمراني” أن عبد الله المأمون عندما رأي رأس أخيه الأمين، قال: إنا لله، سل علينا طاهر ألسنة الناس وسيوفهم، طلبنا منه أخي محمداً أسيرا فأرسله إلينا عقيرا (ذبيحا) فقال له الفضل بن سهل مدبر دولته: يا أمير المؤمنين ما مضي قد مضي، وبكي المأمون  فقال الفضل : ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟

قال : تذكرت لمحمد مع عقوقه، قليل بره، ففي عهد أبينا الرشيد أمر لي يوما بـ 100 ألف درهم ولمحمد الأمين بـ 200 ألف ولم يكن قد علم بذلك، فذهبت وأخبرته فقال لي: يا أخي لعل في نفسك شيئا لأن أبانا أعطاني ضعف ما أعطاك فالمال كله لك، وأخذت الملبغ كله.

فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، كيف نحمد علي بذل مال من سمح بسفك الدماء ونقض العهود وفضل الغدر علي الوفاء فقال المأمون: ذلك هو الذي يسليني عنه «أي يخفف من حزني علي مقتله».

وفي المجمل نقول إن المأمون لم يكن حريصا علي قتل أخيه أو راضيا بقتله، لكن من الواضح أيضا أنه لم يعط أوامر صريحة بعدم قتله، لأنه لو فعل ذلك لما جرؤ طاهر علي قتل الأمين .

ويبقي السؤال: لماذا قتل طاهر الأمين ؟

ربما ظن طاهر أن ذلك سيرضي المأمون خاصة أن أخاه غدر به ونكث عهده معه وعهد أبيهما فهو يستحق القتل، وربما استراح طاهر لفكرة قتل الأمين لأنه سبب كل الخراب الذي لحق بالدولة والدماء التي سفكت وآلاف الأسر التي شردت وآلاف البيوت التي هدمت، فطبق عليه حد المفسدين في الأرض، لأن طاهر كان الحاكم الفعلي لبغداد والرجل القوي الذي يفعل ما يري .

وهنا يظهر تساؤل آخر: هل استفاد طاهر من قتل الأمين ؟

نقول بكل أريحية: لا، فقد غضب عليه المأمون ولم ينس له ذلك حتي إن لم يظهر غضبه بشكل صريح، فقد كان المأمون من أدهي خلفاء بني العباس، وكان قادرا علي أن ينزل العقاب بمن يريد دون أن يظهر هو في الصورة .. وقد فعلها مع كبار رجال دولته الذين كانوا سبب وصوله الي الخلافة .

وقد جاءت فرص كثيرة لطاهر ليتخلص من تبعة إلحاق الأذي بالأمين، ففي فترة حصاره لبغداد أرسل له الأمين كتابا قال فيه: من عبد الله محمد الأمين أمير المؤمنين الي طاهر بن الحسين سلام الله عليك أما بعد: فإن الحرب مع أخي قد وصلت إلي حد هتك الدور وكشف الستور وقد يستغل ذلك الأمر البعيد السحيق لانتشار الفتنة وتفرق كلمتنا، فاكتب لي أمانا بالرحيل الي خراسان لملاقاة أخي فإن عفا فهو أهل ذلك وإن قتلني فإن صمصامة كسرت صماصمة (يعني سيفا كسر سيفا) ولئن يقتلني السبع خير من أن ينبحني الكلب.

لكن طاهر رفض العرض وقال : بل تنزل علي حكمي، فاستشاط الأمين غضبا ولسان حاله يقول: كيف لخليفة أن ينزل علي حكم واحد من الرعية حتي لو كان قائدا منتصرا .

وسب طاهرا سبا قبيحا وقال: لن أنزل علي حكم هذا العبد الأعور (كان طاهر أعور)، ولا أبالي إن وقعت علي الموت أو وقع الموت علي.

ورغم بغض الأمين الشديد لطاهر بن الحسين إلا أنه كان يقدر ملكاته الإدارية وقدراته الحربية الفذة وكان يقول: لو سار أخي المأمون برأيه لما وصل الي عشر ما بلغه طاهر وددت أنه كان معي ولا أبالي حتي لو عاداني كل أهل الأرض.

لكن حتي لو كان طاهر مع الأمين فلم يكن ليغير من الأمر شيئا، فقد كان مع الأمين معظم قادة بني العباس الكبار ولم ينقذوه من مصيره المحتوم، لأن المشكلة الحقيقية كانت في غدره ونكثه وليس في قلة الجند أو ندرة القادة المحترفين المتمكنين، فعلي الباغي تدور الدوائر دائما حتي لو كان غاية في الذكاء والدهاء والبراعة.

حرص طاهر علي أن يكتب رسالة مطولة إلي المأمون يبرئ فيها ساحته ويكشف له تفاصيل ما حدث وسبب قتله للأمين، وهذا حديث الحلقة المقبلة إن شاء الله .

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى