عاممقال رئيس التحرير

نبيل فكري .. يكتب: تحت رعاية !!

بشكل شخصي تتضاءل نسبة الأمل لديّ بسبب أمور ربما لا يراها كثيرون، مردُها أكيد إلى المهنة التي أمارسها منذ عقود الآن، وكم يزعجني أن أقول «عقود» فذلك يعني أن ما بقي ليس أكثر مما مضى، ويعني أن عليَّ أن أقول قولة الحق التي ربما تغافلت عنها في شبابي.

المهم .. أهل الاقتصاد يبنون أحكامهم على الاقتصاد وميزان المدفوعات والاحتياطي النقدي ونسبة الديّن، وغيرها وهي أحكام مجردة من الهوى، وأهل السياسة همهم الأكبر التعددية الحزبية والمناخ العام والمعارضة، وغيرها.

أما أنا فأبني أحكامي وتتفتح النوافذ أمامي بقدر ما أقرأ .. ما أقرأ عنَّا أو عن غيرنا، والحقيقة أن ما يُتداول منَّا أو عنَّا لا يبعث على التفاؤل.

لماذا هذه الخاطرة الآن ؟ .. هي قديمة لكنها تجددت بفعل «مثير»، يستفزني منذ فترة .. تستفزني جداً عبارة «برعاية» التي تسبق كل البيانات الصحفية الصادرة لدينا .. تحت رعاية «فلان» وبتوجيهات «علَّان» وبدعم «ترتان» وربما ينتهي الخبر عند هذا الحد، فلا تعرف «رعوا» ماذا ولا دعموا ماذا ولا وجهوا بماذا.

لن تجد هذا الهراء إلا هنا .. لن تجد تلك القمامة في الكتابة إلا لدينا، لن تقرأ بيانا صحفياً أمريكياً يقول إنه برعاية رئيس مدينة شيكاغو تم افتتاح معرض كذا، ولا بتوجيهات بايدن عملوا كذا .. الأمور من المفترض أنها تسير في سياقات طبيعية .. نزرع الشجر لأن لدينا خطة وليس لأن فلاناً رعى ذلك، ولا أن فلاناً دعم ذلك .. نأكل ونشرب ونلبس لأن هذه طبائع الأمور، ويسيّر الوزير أمور وزارته لأن ذلك واجبه، وليس منَّة منه علينا ولا فضلاً يتفضل به علي البشر، بل إننا من تفضل عليه حين أوليناه ثقتنا ليدير لنا أمورنا.

كل يوم، تصلني عبر جروبات صحفية، بيانات صادرة عن هيئات أو مؤسسات، معظمها من محافظة البحيرة، والحقيقة أنه هالني ما أقرأ، فالمسؤول هو من «رعى» توريد محصول القمح، وفعالية التطعيم في الطب البيطري، والكتب التي أهدتها المؤسسة العلمية للمكتبة، ولم يبق إلا أن يرعى المسؤول الحادث والكارثة والأزمة، التي يتوارون في أخبارها ولا تجد لهم أثراً.

لا تسألني: ما علاقة ذلك بالأمل أو بالتفاؤل، لأن ذلك سيعني أن كل واحد منا في واد .. العلاقة وثيقة .. مثل هؤلاء لا تنتظر منهم أن يفتحوا نافذة، لا تنتظر منهم أن يكونوا عوناً لك .. لا تنتظر منهم رؤية ولا إنجازاً .. مثل هؤلاء عبء علينا وعلى الحياة .. هم من يسدون نوافذ الأمل والتفاؤل ويجثمون على صدورنا كالكوابيس حتى ونحن مستيقظون.

ذات يوم، كنت أتحدث مع مسؤولة كبيرة «باتت أكبر» أشكو إليها ما فعلوه أمام سينما التصر الصيفي التاريخية في دمنهور، والتي كانت من علامات المحافظة، ومستقرا لكثير من الفعاليات الفخيمة، وكيف أصبح مدخلها سوقاً لبيع الخضروات .. الكرنب والبصل والكُرات؟.

المسؤولة،  سألتني: انت مش معايا إني أوفر لواحد مكان يسترزق منه ويصرف على عياله ؟ .. قلت لها: لأ مش معاكي .. ردت: أنا غلطانة إني رديت عليك.

تلك النماذج هي التي ترعى وتوجه وتدعم .. تلك النماذج «استنسخت» حولها نماذج أقل .. تقزَّم كل شيء .. وتقزم المسؤولون، فأصبح من يمضي حتى وإن كان سيئاً لا يأتي أفضل منه .. هؤلاء من يديرون ويتجولون حولنا في أبهة بوجوهههم «الكالحة»، يخرجون لنا ألسنتهم، يكيدون لنا، لا يرضيهم أن نتعامل معهم معاملة عادية، يريدون معاملة «الأسياد»، حتى وإن كانوا عبئاً على البلاد وعلى العباد.

«تحت رعاية» كنت أكتبها في مستهل مشواري الصحفي في منتصف التسعينيات، لكن للحق كنا نكتبها أقل .. اليوم كل مسؤول يريد أي شيء تحت رعايته، إلا نحن .. تحت رعايته وهو جالس في مكتبه «يقزقز لب» .. «تحت رعايته» آفة عربية، لن نتقدم طالما أنها فينا .. المدهش أن معظم من يرعوا «أفشل من فينا».

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى