أ.د. إبراهيم محمد مرجونة يكتب خان الخليلي

في قلب القاهرة القديمة، حيث تتشابك الأزقة كما تتشابك مصائر البشر، يقيم خان الخليلي لا بوصفه مكانًا فحسب، بل بوصفه حالة وجودية كاملة. هناك، حيث تختلط رائحة القهوة بدخان السجائر وأصداء الدعاء بأحاديث العابرين، يضع نجيب محفوظ قارئه أمام واحدة من أعمق رواياته النفسية، رواية لا تُقرأ باعتبارها حكاية عن الحب أو الحرب، بل باعتبارها تشريحًا بطيئًا ودقيقًا للإنسان حين يُهزم من الداخل.
ف رواية«خان الخليلي» (1945) ليست نصًا عن حي شعبي بقدر ما هي نص عن الروح الشرقية حين تُجبر على مواجهة خوائها في زمن مضطرب.
تأتي الرواية في سياق تاريخي بالغ القسوة: سنوات الحرب العالمية الثانية، حين كانت القاهرة تعيش على إيقاع الغارات، والخوف، وانتظار المجهول.
هذا السياق لا يظهر عند محفوظ كخلفية صامتة، بل كقوة ضاغطة تتسلل إلى النفوس، وتعيد تشكيل العلاقات، وتكشف هشاشة الإنسان حين يفقد شعوره بالأمان.
أحمد عاكف، الموظف الحكومي الذي تجاوز الأربعين دون أن يحقق حضورًا حقيقيًا في الحياة، ليس مجرد بطل روائي، بل نموذج للإنسان الذي يعيش على الهامش، لا لأن المجتمع لفظه صراحة، بل لأنه لم يمتلك يومًا الشجاعة الكافية ليكون في المركز.
انتقال الأسرة إلى خان الخليلي هربًا من الغارات يبدو، في ظاهره، حركة إنقاذ، لكنه في العمق انتقال من خوف واضح إلى خوف مستتر. فالخارج، رغم عنفه، كان مفهومًا، أما الداخل –داخل الخان وداخل النفس– فكان أكثر التباسًا. هنا يبدأ أحمد في الانكشاف على ذاته، لا بوصفه فردًا اجتماعيًا، بل بوصفه كائنًا معزولًا، يراقب الحياة ولا يشارك فيها. قهوة الزهرة، التي تصبح مركز ثقل الرواية، ليست مجرد ملتقى شعبي، بل مسرح تتجلى عليه تناقضات المجتمع المصري: فقراء، موظفون، عاطلون، أحلام صغيرة تُقال على استحياء، وخيبات كبيرة تُخفى خلف النكات.
قصة الحب بين أحمد ونوال لا يمكن فصلها عن هذا المناخ النفسي والاجتماعي. فحب أحمد ليس اندفاعًا عاطفيًا بقدر ما هو تعلّق يائس بفكرة الخلاص. نوال تمثل له إمكانية الحياة التي لم يعشها، والدفء الذي افتقده، والاعتراف الذي لم يحصل عليه يومًا.
لكن محفوظ، بوعي فلسفي عميق، لا يمنح بطله هذا الخلاص. فحين تميل نوال إلى رشدي، الأخ الأصغر، الأكثر حيوية وحضورًا، لا تبدو الخيانة فعلًا أخلاقيًا فحسب، بل نتيجة طبيعية لصراع غير متكافئ بين نمطين من الوجود: وجود منسحب يتغذى على التأمل والانتظار، ووجود منفتح يلتهم الحياة دون تردد.
رشدي هنا ليس شريرًا، كما أن أحمد ليس ضحية بريئة بالكامل. كلاهما نتاج زمنه وشخصيته. غير أن وعي أحمد بالهزيمة أشد قسوة، لأنه وعي داخلي، لا يمكن الفرار منه. الخيانة تتحول إلى صدمة وجودية، تذكرنا بما تحدث عنه (كيركغارد) من أن اليأس الحقيقي ليس في فقدان شيء خارجي، بل في فقدان الذات لمعناها. أحمد لا يخسر نوال فقط، بل يخسر الصورة التي رسمها لنفسه، بوصفه إنسانًا قادرًا على الحب والانتماء.
من هنا، يبدأ التحول الصوفي في شخصية أحمد. لكنه صوفية مشوبة بالانكسار، لا بالصفاء. فالصوم، والتلاوة، والانكفاء على الذات، لا تبدو كطريق إلى الله بقدر ما هي محاولة للهرب من العالم.
وهذا ما يجعل رؤية محفوظ بالغة الحداثة: إنه يميز بوضوح بين الزهد بوصفه اختيارًا حرًا نابعًا من قوة داخلية، والزهد بوصفه انسحابًا دفاعيًا من واقع لم يعد محتملًا. أحمد، في هذا السياق، أقرب إلى شخصية وجودية مهزومة، تشبه أبطال (كافكا أو كامو)، وإن ظل الإطار ثقافيًا وشرقيًا خالصًا.
الخان نفسه يتحول إلى رمز فلسفي مركزي. فهو مكان يعج بالحياة، لكنه في الوقت ذاته مغلق، دائري، يعيد إنتاج الأيام ذاتها. إنه صورة مصغرة للعالم، أو كما يقول (هايدغر)، فضاء يُلقي فيه الإنسان، دون أن يختار شروط وجوده. سكان الخان يحاولون التكيف، كل بطريقته: بعضهم بالثرثرة، بعضهم بالسخرية، بعضهم بالدين، وبعضهم باللامبالاة. لكن أحدًا لا ينجو تمامًا من الشعور العميق بالقلق. القلق هنا ليس خوفًا من شيء محدد، بل خوف غامض من الفراغ، من أن تمر الحياة دون معنى.
في إسقاط واضح على الواقع ، تبدو «خان الخليلي» نصًا شديد الراهنية. فالكثير من الأفراد يعيشون حالة أحمد عاكف نفسها، وإن اختلفت الظروف. الوظيفة الرتيبة، العلاقات الهشة، البحث المحموم عن معنى في عالم سريع الإيقاع، كلها عناصر تجعل الإنسان المعاصر أكثر عرضة للانسحاب الداخلي. وسائل التواصل الحديثة، على سبيل المثال، تشبه قهوة الزهرة في كونها فضاءً للتلاقي الظاهري، لكنها قد تتحول إلى سجن نفسي يعمّق الشعور بالوحدة بدل أن يخففه.
من الناحية الفلسفية، يمكن قراءة الرواية بوصفها مساءلة لفكرة الحرية. هل أحمد حر في انسحابه؟ أم أنه استسلم لقدر داخلي صنعه بنفسه؟ هنا يتقاطع محفوظ مع سارتر، الذي يرى أن الإنسان محكوم بالحرية، حتى في اختياره للهروب. أحمد اختار العزلة، لكنه دفع ثمن هذا الاختيار اغترابًا أعمق. الصوفية التي يلجأ إليها لا تحرره، بل تجعله أكثر وعيًا بفراغه، وكأن الرواية تقول إن الهروب من العالم لا يلغي الصراع، بل ينقله إلى الداخل.
ذروة الرواية ليست في حدث درامي صاخب، بل في هذا الاستقرار الكئيب الذي يصل إليه أحمد. الاستقرار هنا ليس سلامًا، بل قبولًا مريرًا بالهزيمة. وهذه النهاية المفتوحة هي ما يمنح النص قوته. محفوظ لا يدين بطله صراحة، ولا يمجّد انسحابه، بل يترك القارئ أمام سؤال أخلاقي وفلسفي معًا: هل كان يمكن لأحمد أن يواجه العالم بطريقة أخرى؟ أم أن العالم نفسه كان أكبر من طاقته؟
في المحصلة، «خان الخليلي» رواية عن الإنسان حين يُختبر في أضعف لحظاته، وعن المجتمع حين يعجز عن إنقاذ أفراده من السقوط الصامت. إنها عمل يكشف أن الخلاص لا يكمن في الأماكن، ولا في العلاقات، ولا حتى في الانسحاب الروحي، بل في مواجهة الذات بشجاعة، مهما كانت النتيجة. ولهذا تظل الرواية حيّة، تتجاوز زمنها، وتخاطب قارئ اليوم كما خاطبت قارئ الأمس، مؤكدة أن السؤال الوجودي واحد، وإن اختلفت الأزمنة: هل نعيش الحياة، أم نكتفي بمراقبتها من خلف زجاج الخوف؟






