الملك العضوض والأثمان الباهظة (40)
عيسي بن موسي في شباك المنصور
تحدثنا في الحلقة الماضية عن عيسي بن موسي سيف بني العباس وأحد أركان دولتهم في زمنه والذي كان وليا لعهد عمه أبي جعفر المنصور ، ورغم أن عيسي كان جديرا بالخلافة خليقا لها لملكاته الإدارية والعسكرية ودوره البارز في استقرار دولتهم ، إلا أن حب الولد كان من الطبيعي أن يفرض نفسه في دولة بني العباس مثلما فرض نفسه في دولة بني أمية، خاصة أن فكرة الملك العضوض نفسها قامت علي حب الولد وتسببت في أهوال وأحداث جسام وأنهار من الدماء .
وتحدثنا في الحلقة الأولي من هذه السلسلة عن الجملة الشهيرة التي قالها معاوية رضي الله عنه وكانت أساس هذه الحلقات ” لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي “.
واذا كان معاوية الصحابي المجاهد صهر رسول الله صلي الله عليه وسلم وخال المؤمنين قد ضعف أمام إبنه يزيد، فكيف بمن جاءوا بعده وهم أقل إيمانا وأكثر حرصا علي الدنيا، وأكثر إسراعا إلي سفك الدماء ،فكان من الطبيعي أن يضعفوا أمام أبنائهم وأن يضحوا بالغالي والنفيس من أجل أن يظل الملك والسلطان في أولادهم.
حب الولد سيطر علي أبي جعفر المنصور فعندما بلغ إبنه محمد مبلغ الشباب لم يعد يري أحدا جديرا بالخلافة بعده إلا ولده، وتناسي كل ما قدمه ابن أخيه عيسي بن موسي وأنه ولي عهده وجدير بالخلافة، ولم يعد أمام المنصور إلا أن يضغط بكل الوسائل من أجل أن يخلع عيسي نفسه من ولاية العهد طوعا أو كرها .
وكان من الغريب أن يدخل الشاعر أبو نخيلة في هذا الصراع الملتهب، وبدا كالصعلوك الذي يدخل في صدام بين الملوك، وظن المسكين أنه سينال جائزة عظيمة من المنصور .. فكانت الجائزة هي تقديم جسده للنسور !!
أراد أبو نخيلة أن يجامل المنصور وينحاز له ويثبت أحقية ولده بولاية العهد علي حساب عيسي بن موسي فنظم قصيدة يقول فيها:
إلى أميرِ المؤمنينَ فاعْمِدِي
إلى الذي يَنْدَى ولا يندى ندي
سيري إلى بحرِ البِحارِ المُزْبِدِ
إلى الذي إن نَفِدَتْ لم يَنْفَدِ
ليسَ وليُّ عهدِنا بالأسعدي عيسى
فَزَحْلِقْها إلى محمدِ
وأشاع أبو نخيلة القصيدة حتى أنشدتها العامة والخدم، ووصلت إلى أبي جعفر، فطلب أبا نخيلة إلى مجلسه، وطلب منه أن يُنشد القصيدة، وكان عيسى بن موسى في المجلس، وعندما أنهى أبو نخيلة قصيدته فرح المنصور بها، وقال لعيسى : لئن كان هذا عن رأيك، لقد سررتَ عمك، وبلغتَ من مرضاته أقصى ما يبلغه الولد البار، فقال عيسى مستشهدا بالآية الكريمة “لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين”.
طبعا رد له مغزي يريد من خلاله أن يقول لعمه إنه لن يتنازل عن ولاية العهد .
وكان عيسي محقا، فمن يفرط بسهولة وباختياره في منصب الرجل الثاني في إمبراطورية مترامية الأطراف، من يفرط في ملك عريض وسلطان كبير ينتظرانه فور موت الخليفة؟ .. صعب جدا إن لم يكن مستحيلا .
وقرر عيسي بن موسي أن ينتقم من أبي نخيلة شر انتقام فأرسل رجاله في طلب رأس أبي نخيلة، وذبحوه بالفعل لكنهم لم يكتفوا بذلك بل سلخوا وجهه ورموا جثته للنسور!!
ودفع أبو نخيلة حياته ثمناً لسوء تقديره، علي النقيض تماما من شاعر آخر هو أبو دلامة، وكان في مجلس المهدي بن المنصور وعنده مجموعة من كبار أمراء البيت العباسي منهم إسماعيل بن محمد وعيسى بن موسى والعباس بن محمد ومحمد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بنى هاشم.
فقال المهدي له: لئن لم تهج واحداً ممن في البيت لأقطعن لسانك، فنظر إلى القوم، فكلما نظر إلى واحد منه غمزه بأنه سينال منه عطية ومكافأة فقال أبو دلامة: فعلمت أنى قد وقعت، وأنها أزمة من الأزمات لابد منها، فلم أر أحداً أحق بالهجاء منى، ولا أدعى إلى السلامة من هجاء نفسي، فقلت:
ألا أبلغ إليك أبا دلامة
فليس من الكرام ولا كرامة
إذا لبس العمامة كان قردا
وخنزيرا إذا نزع العمامة
جمعت دمامة وجمعت لؤما
كذاك اللؤم تتبعه الدمامة
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا
فلا تفرح فقد دنت القيامة
فضحك من حوله ولم يبق منهم أحد إلا كافأه.
فأنقذ نفسه ونال الجوائز السخية .
نعود إلي أبي جعفر المنصور الذي قرر اللجوء إلي وسائل خشنة لترهيب ابن أخيه عيسي بن موسي وإجباره علي خلع نفسه، نتحدث عنها في الحلقة المقبلة إن شاء الله.