تحقيقات وتقارير

انطلاقة نووية واعدة.. الضبعة ترسم مستقبل الطاقة بمصر

يشكّل مشروع محطة الضبعة النووية أحد أهم التحولات الاستراتيجية في مسار الطاقة بمصر، فهو ليس مجرد محطة لإنتاج الكهرباء، بل خطوة قومية تعيد رسم خريطة التنمية وتضع الدولة في موقع متقدم بين الدول المستخدمة للطاقة النووية السلمية. وتُعد المحطة—الواقعة بمدينة الضبعة بمحافظة مطروح—الأضخم في تاريخ مشروعات الكهرباء المصرية، بطاقة إجمالية 4800 ميجاوات تُنتج عبر 4 مفاعلات من طراز VVER-1200 الروسي من الجيل الثالث المطور، المعروف بأعلى مستويات الأمان والكفاءة عالميًا.

أربعة عقود من الحلم إلى التنفيذ الفعلي

بدأت ملامح المشروع منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي حين بدأت الدراسات الخاصة باختيار الموقع، ثم اختير موقع الضبعة رسميًا عام 1983 باعتباره الأنسب وفق دراسات جيولوجية وبيئية وزلزالية شاملة، جرى تحديثها ومراجعتها بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفي مارس 2019، حصل الموقع على إذن القبول من هيئة الرقابة النووية والإشعاعية، في خطوة شكلت الأساس القانوني والهندسي للبدء الفعلي في الأعمال الإنشائية.

وجاء عام 2017 ليكون نقطة التحول الكبرى بتوقيع العقود النهائية لبناء الوحدات الأربع، بعد الاتفاق الحكومي المبدئي في نوفمبر 2015 بحضور الرئيسين عبد الفتاح السيسي وفلاديمير بوتين. ومنذ ذلك التاريخ انطلقت الأعمال الإنشائية بوتيرة متسارعة جعلت المشروع من أسرع المشروعات النووية تقدمًا على مستوى العالم.

تكنولوجيا الجيل الثالث المتطور ومعايير أمان عالمية

تقوم محطة الضبعة على تكنولوجيا مفاعلات الماء المضغوط PWR من طراز VVER-1200 (AES-2006)، وهي مفاعلات تفي بمعايير ما بعد حادث فوكوشيما، وتجمع بين الأنظمة النشطة والسلبية، مثل:

مصيدة قلب المفاعل (Core Catcher) القادرة على حجز المواد المنصهرة في الحوادث القصوى.

نظام إزالة الحرارة السلبية (PHRS) الذي يعمل دون كهرباء أو تدخل بشري.

طبقات حماية متعددة تضمن عدم تسرب أي إشعاعات حتى في الحالات الطارئة.


ويعتمد التصميم على أعلى اشتراطات الأمان الدولية المعتمدة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي أشادت في تقاريرها بالبنية التحتية النووية المصرية، خاصة تقرير بعثة INIR لعام 2019 الذي أكد اكتمال منظومة العمل وفق أعلى المقاييس.

خطة تنفيذ دقيقة بثلاث مراحل أساسية

يمضي تنفيذ المشروع وفق جدول مرحلي دقيق:

1. مرحلة التجهيز واستيفاء التراخيص

وشملت أعمال البنية الأساسية، والاختبارات الفنية للموقع، واستيفاء المتطلبات التنظيمية. امتدت هذه الفترة لنحو أربع سنوات.

2. مرحلة الإنشاء والتشييد

وتبدأ فور إصدار إذن الإنشاء، وتشمل بناء الهياكل الهندسية، وتوريد المعدات، وتدريب الكوادر، وتجهيز المكون المحلي. وتستغرق نحو 5.5 سنوات.

3. مرحلة الاختبارات والتشغيل

وفيها تتم اختبارات ما قبل التشغيل، يليها التشغيل التجريبي لمدة 11 شهرًا قبل منح ترخيص التشغيل النهائي.

ومن المقرر أن تدخل الوحدة الأولى الخدمة خلال النصف الثاني من عام 2028، تليها باقي الوحدات حتى عام 2030.

تقدم هندسي بارز وتركيب وعاء ضغط المفاعل الأول

شهد عام 2025 إنجازًا تاريخيًا بتركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة الأولى، وهو الجزء الأهم في أي محطة نووية، إذ يمثل قلب منظومة التشغيل. وتم تنفيذ العملية بالتزامن مع الاحتفال بالعيد الوطني الخامس للطاقة النووية، وسط متابعة من القيادتين المصرية والروسية.

ووصل الوعاء، الذي صُنّع في روسيا، إلى ميناء الضبعة في 21 أكتوبر قبل نقله للموقع وتجهيزه للتركيب، في خطوة تعكس تقدم التنفيذ ودقة الأعمال الفنية.

كما أظهرت الأعمال الإنشائية تقدمًا في الوحدات الأخرى، حيث أنجزت الصبة الخرسانية للمرحلة الثانية من مبنى وعاء الاحتواء الداخلي بالوحدة الثانية قبل الموعد المحدد لها.

مكاسب اقتصادية وتنموية ضخمة

لا يقتصر أثر المشروع على إنتاج الكهرباء فقط، بل يمتد إلى مكاسب اقتصادية نوعية أبرزها:

توفير الغاز الطبيعي وتقليل الانبعاثات

أكد وزير الكهرباء الدكتور محمود عصمت أن تشغيل المشروع بالكامل سيوفر نحو 8 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا، بقيمة مالية ضخمة، فضلًا عن خفض 16 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنويًا، مما يدعم توجه الدولة نحو الطاقة النظيفة وتحقيق مستهدفات 2035.

خلق فرص عمل واستثمارات محلية

يوفر المشروع آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، إضافة إلى مشاركة أكثر من 600 شركة في أعمال التنفيذ، بينها 25% شركات مصرية، مع وصول نسبة العمالة المصرية في الموقع إلى 80%.
كما تخطط الدولة لرفع المكون المحلي من 20% في الوحدة الأولى إلى 35% في الوحدة الرابعة.

تنمية مدينة الضبعة ومطروح

أسهم المشروع بشكل ملموس في تطوير البنية التحتية بالمنطقة، وجذب استثمارات صناعية وتقنية، إلى جانب دعم الخدمات الصحية والتعليمية.

توطين التكنولوجيا النووية وبناء جيل متخصص

يتضمن المشروع برامج واسعة لبناء القدرات المصرية في مجال الطاقة النووية، منها:

مدرسة الضبعة النووية التي تخرج دفعات من الفنيين المؤهلين للعمل في المفاعلات.

برامج تدريب هندسية بالتعاون مع روسيا وهيئة المحطات النووية.

منح تدريبية متخصصة في مجالات الوقود النووي والهندسة الميكانيكية وأنظمة الأمان.

وقال وزير الكهرباء إن مصر تمتلك الآن كوادر بشرية مؤهلة لتشغيل المحطة وصيانتها بكفاءة عالية، وهو ما يمثل استثمارًا طويل الأجل في العنصر البشري.

استخدامات سلمية تمتد لما بعد إنتاج الكهرباء

يشمل البرنامج النووي المصري تطبيقات واسعة تتجاوز إنتاج الكهرباء، منها:

التطبيقات الطبية والعلاجية.

دراسات بيئية ومناخية متقدمة.

تقنيات تقدير أعمار الآثار.

دعم الصناعات الثقيلة والتكنولوجية المتقدمة.

شراكة استراتيجية تؤسس لمرحلة جديدة

أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن إقامة محطة الضبعة تجسّد شراكة ممتدة بين مصر وروسيا، تعود جذورها إلى مشروعات كبرى مثل السد العالي. وأشاد بالدور الشخصي للرئيس عبد الفتاح السيسي في دفع عجلة المشروع وتحقيق معدلات إنجاز غير مسبوقة.

كما وصف رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي المشروع بأنه “نقطة تحول لمصر والعالم”، مشيدًا بالتزام الدولة بالاستخدام الآمن والسلمي للطاقة النووية.

خطوة تاريخية لبدء عصر جديد من الطاقة

يمثل مشروع محطة الضبعة النووية نقطة تحول نوعية في تاريخ مصر الحديث، فهو مشروع طاقة، وتنمية، واقتصاد، وتكنولوجيا، وتعليم في آن واحد. وهو أيضًا الركيزة التي ستضمن لمصر أمنًا طاقيًا مستدامًا لعقود طويلة، وتضعها بقوة على خريطة الدول الرائدة في الاستخدام السلمي للطاقة النووية.

وبتقدم الأعمال بوتيرة متسارعة، واستمرار تعاون الخبراء المصريين والروس، تقترب مصر من لحظة فارقة ينتقل فيها الحلم النووي الممتد لأكثر من نصف قرن إلى واقع فعلي، يعزز مكانة الدولة ويخدم أجيالها القادمة، ويؤسس لاقتصاد أكثر قوة ونموًا واستدامة.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى