صلاح رشاد .. يكتب : أبو جعفر المنصور .. فحل بني العباس
أخل أبو العباس السفاح بوعده لعمه عبد الله، الذي هزم مروان وفرق جمع الأمويين ومزقهم كل ممزق، وانحاز إلي أخيه أبي جعفر المنصور الذي كان قد ولاه الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وجعله ولي عهده، فقد أراد السفاح ان تظل الخلافة في بيت أبيه لأنها لو خرجت إلي عمه عبد الله فلن تعود إليهم.
ولم يكتف السفاح بذلك، بل جعل ولي عهد المنصور، هو ابن أخيهما عيسي بن موسي للتأكيد علي أن الخلافة ستظل في بيت أبيهم، يعني جيل الأعمام لم يتذوق حلاوة الخلافة وصولجانها وبريقها وخرج منها صفر اليدين.
ولم يبح السفاح بوصيته لأحد باستثناء عيسي بن موسي ليس لأنه ابن أخيه المؤتمن فقط وإنما لأن له نصيبا من الملك والسلطان باعتباره سيكون ولي عهد عمه أبي جعفر.
وظل الأمر سرا إلي أن مات السفاح عام 136 هجريا بعد 4 سنوات فقط من خلافته متأثرا بإصابته بالجدري، وفي السنة التي مات فيها السفاح خرج أبو جعفرالمنصور إلي الحج بإذن أخيه الخليفة وكان ذلك مقصودا بعد أن طلب أبو مسلم ان يحج.
وعندما يحج ابو مسلم يجب أن يكون أميرا للحج، ولم لا وهو صاحب الدور الأبرز والأكبر والأقوي في القضاء علي الدولة الأموية .. لكن جرت العادة في العهد الأموي أن يكون أمير الحج من بيت الخلافة، فهل يشذ العباسيون عن هذه القاعدة في بداية دولتهم، لذلك طلب السفاح من أخيه أبي جعفر أن يحج في نفس العام ليحرم أبا مسلم من هذا الشرف الكبير، مما أغاظ أبو مسلم وقال: ألم يجد أبو جعفر عاما يحج فيه إلا هذا العام، وبعد الفراغ من الحج والاستعداد للعودة جاء الخبر بموت السفاح.
وكان أبو جعفر شديد البغض لأبي مسلم منذ أن زاره في خراسان أثناء خلافة السفاح ورأي طاعة الجند له وخوفهم منه واعتزازه بنفسه وبدوره الكبير في دولة بني العباس، لذلك عندما عاد إلي أخيه السفاح، قال له: لن يكون لك ملك أو سلطان طالما ظل أبو مسلم حيا فيجب قتله.
واهتز السفاح من هول الكلمة وقال له: كيف ذلك وهو أبو مسلم صاحب البلاء العظيم، فقال له المنصور: إنما كان ذلك بريحنا ودولتنا ولو بعثنا سنورا مكانه لفعل ما فعل ( السنور هو القط الوحشي ) يعني من وجهة نظر أبي جعفر أن كل ما فعله أبو مسلم لهدم الدولة الأموية وتأسيس الدولة العباسية كان من الممكن أن يفعله قط !!
إلي هذا الحد كان أبو جعفر يستهين بأدوار الرجال أم أن شدة البغض جعلته لاينصف الرجل الذي بني الدولة العباسية بشهادة واحد من مشاهير خلفائها بعد ذلك وهو المأمون ؟
وقد ألف المؤرخ العراقي عبد الجبار الجومرد كتابا عن أبي جعفر المنصور سماه “داهية العرب “، عدد فيه مزايا الرجل وتناول أقوال المؤرخين ورجالات زمانه عنه.
يقول صاحب الفخري عنه: كان من عظماء الملوك وحزمائهم، وعقلائهم وعلمائهم، وذوي الآراء الصائبة منهم والتدبيرات السديدة.
أما المسعودي فقال عن المنصور إنه كان من الحزم وصواب الرأي وحسن السياسة على ما تجاوز كل وصف.
ووصفه ابن شاكر بأنه كان فحل بني العباس، ومن أفراد الدهر حزماً ودهاء وجبروتاً.. وكان شجاعاً مهيباً كامل العقل، تاركاً للهو واللعب وكان فيه عدل، وله حظ من صلاة وعلم وفقه.
قال عنه وزيره الربيع بن يونس: “كان للمنصور حمى من العقل، لا يسيطر به الجهل، ويرى باطن الأمر من الرأي، كما يرى ظاهره”.
وقال يزيد بن هبيرة والي العراق لمروان آخر خلفاء بني أمية : “ما رأيت رجلاً قط في حرب ولا سمعت في سلم أمكر ولا أبرع ولا أشد تيقظاً من أبي جعفر..وقد حاصرني ومعي فرسان العرب وما في رأسي شعرة بيضاء فانتهي الحصار بعد شهور وما في رأسي شعرة سوداء.
وقال القائد عثمان بن عمارة: “إن حشو ثياب هذا العباسي شجاعة ومكرا ودهاء”.
ووصفه الطبري، بأنه “كان أديباً، وخطيباً مُفوَّهاً، وفي مقدمة من يتكلم، فيبلغ حاجته على البديهة”.
لكن يعاب علي هذا النوع من الكتب انه ينشر المزايا ويتغافل عن العيوب والأخطاء ويلتمس لصاحبها الأعذار.
ولكي يمهد المنصور الطريق لابنه محمد المهدي كان يجب أن يتخلص من كل أعدائه ليفعل مايشاء دون أن يخشي أي مخاطر او عقبات، وقبل أن نتحدث عن أعداء المنصور وكيف تخلص منهم، نتوقف عند وجه الشبه العجيب بينه وبين عبدالملك بن مروان داهية بني أمية والمؤسس الثاني لدولتهم.
وهذا حديث الحلقة المقبلة إن شاء الله .