صلاح رشاد .. يكتب: الأمين يرفض النصيحة الذهبية
كان عبدالله المأمون يدرك أن حاشية أخيه لن تتركه حتي تزين له فكرة خلعه من ولاية العهد، رغم أنه كان حريصا من البداية علي إرسال الكتب التي تؤكد ولاءه لأخيه الأمين ووفاءه له وأهداه من تحف ونفائس خراسان الشيء الكثير ، ولكن لا يجتمع الأشرار إلا علي إشعال النار، وكان المأمون محظوظا بثلاثة رجال لعبوا دورا حاسما في أهم مرحلة في حياته ،وهم الفضل بن سهل وطاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين التميمي.
وتحدثنا قبل ذلك باستفاضة عن الفضل بن سهل، أما طاهر بن الحسين فكان رجل حرب من الطراز الأول وكان أعور، ووصفه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء بأنه كان شهماً مهيباً داهية جواداً، روى الحديث عن عبد الله بن المبارك وعمه علي بن مصعب.
كما روى عنه ابنه عبد الله بن طاهر أمير خراسان وابنه الآخر طلحة.
وكان شديد السخاء ومع فرط شجاعته، كان عالماً خطيباً مفوهاً بليغاً شاعراً .
والرجل الثالث الذي لعب دورا مهما في إقامة دولة المأمون هو هرثمة بن اعين التميمي، وكان من أصحاب التاريخ الحافل في خدمة الخلفاء العباسيين، فقد عينه محمد المهدي رئيسا لحرس ابنه وولي عهده موسي الهادي، ثم علت منزلته في زمن الهادي وعندما فكر الهادي في قتل أخيه الرشيد، طلب من هرثمة أن يقوم بهذه المهمة، فقال له: يا أمير المؤمنين إنه أخوك ابن أمك وأبيك وولي عهدك فكيف تكون صورتنا أمام الله والناس، فرد الهادي: نفذ الأمر بدلا من أن يكون البديل رأسك.
لكن سرعان مامات موسي الهادي بشكل مفاجئ، فحفظ هارون الرشيد هذا الموقف لهرثمة، وكلما حدثت هزة أو فتنة في ولاية من ولايات الدولة العباسية لم يجد لها الرشيد أكفأ من هرثمة الذي ولاه مصر ثم إفريقيا ثم خراسان في أوقات صعبة.
وفي كل المهمات التي أسندها الرشيد لهرثمة كان النجاح حليفه لأن هرثمة كان رجل حرب وسياسة وإدارة، وكان مع الرشيد في الجيش الذي قاده الخليفة بنفسه للقضاء علي فتنة رافع بن الليث في خراسان، والتزم هرثمة بوصية الرشيد التي ضرب بها الفضل بن الربيع عرض الحائط فكان من القلة القليلة في الجيش التي تمسكت بالذهاب إلي عبد الله المأمون في مرو.
وكان هؤلاء الثلاثة، الفضل بن سهل وطاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين بمثابة أوراق رابحة للمأمون، قادوه إلي بر النجاة واعتلاء عرش الخلافة.
وفي كتابه القيم «عصر المأمون»، يقول أحمد الرفاعي: لم يكن الأمين بليد الذهن، بل كان بليغا فصيحا يملك أدوات رجل الدولة، لكنه كان ضعيف الإرادة وقع تحت تأثير رجلين كان كل تفكيرهما منحصرا في مصالحهما الشخصية ولو كان ذلك علي حساب الدولة، وهما الفضل بن الربيع وعلي بن عيسي بن ماهان.
وقد تحدثنا كثيرا عن الفضل بن الربيع أما علي بن عيسي فهو من الشيعة العباسية بخراسان وولاه الرشيد خراسان فأساء السيرة وظلم الرعية فاشتكوه للرشيد فغضب منه وعزله وصادر أمواله، لكنه كان مقربا من الأمين ومن أهم رجاله وكان يريد العودة لولاية خراسان ليرد الصفعة لهم بعد أن كانوا سبب عزله عنها.
وقد زينت حاشية السوء للأمين عزل أخيه المأمون، وطبعا هذا الأمر وافق هوي الأمين بعد ذلك ليتكرر نفس السيناريو الذي لم يشذ عنه خليفة أموي أو عباسي إلا باستثناءات قليلة جدا.
بجانب حاشية السوء كانت هناك أصوات عاقلة داخل البلاط العباسي، ترفض هذه الخطوة خوفا من عواقبها مثل القائد خزيمة بن خازم الذي قال للأمين:
يا أمير المؤمنين لم ينصحك من كذبك، ولم يغشك من نصحك، لاتجرئ القواد علي الخلع فيخلعوك، ولاتحملهم علي نكث العهود فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول والناكث مفلول.
كلمات من ذهب لكن هذه النصيحة الذهبية لم تجد أذانا صاغية، وأصر الأمين علي أن يسير في ركاب الغدر والبغي ظنا منه أنه الطرف الأقوي في معادلة السلطة، ولجأ الأمين وحاشيته إلي السيناريو الأول، وهو سيناريو المفاوضات علي أمل أن يخلع المأمون نفسه مبكرا بدلا من الدخول في مواجهة غير متكافئة إذا تم اللجوء الي السيناريو الثاني الخشن وهو الاحتكام إلي السيف ودق طبول الحرب.
فمن هم رجالات الأمين في سيناريو المفاوضات وكيف استقبلهم المأمون وهل كانت هناك بارقة أمل في نزع فتيل هذه الأزمة بين الأخوين قبل أن تستفحل وتصل إلي حرب لاهوادة فيها ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .