صلاح رشاد .. يكتب: الفضل بن الربيع يستنجد بفارس العرب وابن فارسها
وافق طاهر بن الحسين علي أن يمنح عبد الرحمن بن جبلة وجيشه الأمان، وهذه لفتة طيبة من طاهر أن يترك الباب مفتوحا للنواحي الإنسانية، حقنا للدماء كلما تيسر ذلك، خاصة أن جميع الدماء مسلمة، وتسفك وتنزف من أجل أخوين يتصارعان علي السلطة.
أراد عبد الرحمن أن يخدع طاهرا فتظاهر بأنه مسالم له وراض بأمانه، في حين أنه كان يدبر للإنقضاض علي طاهر وجيشه وهم آمنون.
قد يقول قائل إنها الحرب، والحرب خدعة وموقف عبد الرحمن سليم لأنه يسعي للنصر بأي وسيلة، لكنه كان يجب أن يعلم أن طاهرا وجيشه ليسوا بهذه السذاجة والغفلة حتي يركنوا إلي أمان لن يفي به من طلبه.
وباغت عبد الرحمن أصحاب طاهر وهجم عليهم بجيشه، فثبت له رجال طاهر وقاتلوه أشد قتال رآه الناس حتى تقطعت السيوف وتكسرت الرماح، ودارت الدائرة علي عبد الرحمن وانهزم مرة أخري وبقي في نفر من أصحابه فقاتل وأصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب، فقال: لا يرى أمير المؤمنين وجهي منهزمًا أبدًا، ولم يزل يقاتل حتى قُتل.
رفض أن يعود الي الأمين مهزوما وفضل أن يموت قتيلا، ليخسر الخليفة جيشا ثانيا في مواجهة الداهية طاهر بن الحسين الذي سطع نجمه أكثر، ورسخت مكانته وأصبح مصدر رعب حقيقي للأمين وقواده.
بدأ الفضل بن الربيع يدرك أنهم في ورطة شديدة وأنه راهن علي الجواد الخاسر وربما كان قد شعر بالندم علي إغرائه الأمين بأخيه المأمون دون أن يعلن ذلك صراحة، ولكنه بدأ يفكر جديا في رجل من رجالات الحرب الماهرين لإيقاف زحف طاهر بن الحسين ذلك الإسم الذي أصبح مجرد ذكره يثير الرعب في جيوش الأمين، وكأن طاهرا هو القائد الفذ الذي لا تعرف الهزيمة طريقا إليه.
ولم يغب عن بال الفضل بن الربيع في تلك الظروف المأساوية أسرة يزيد بن مزيد الشيباني، فبنو شيبان هم أهل الفروسية والشجاعة، وكان معن بن زائدة الشيباني من أبرز قواد الدولة الأموية، أبلي معها بلاء حسنا في صراعها الدامي مع بني العباس، فأهدر أبو جعفر المنصور دمه، ثم عفا عنه المنصور بعد أن وقف موقفا بطوليا في معركة «الراوندية» التي كادت أن تتسبب في مقتل المنصور لولا وقوف رجال شجعان بجواره في تلك اللحظة المصيرية كان منهم معن بن زائدة فشكر له المنصور صنيعه، وقال له: مثلك يصطنع يامعن، وولاه اليمن ثم أذربيجان.
ولما قتل معن بيد الخوارج ولي ابن أخيه يزيد بن مزيد وكان قائدا ماهرا صعد إلي قمة المجد في عهد الرشيد وأصبح من أهم قواده وظل في علو المكانة حتي مات.
استنجد الفضل بن الربيع بأسد بن يزيد ولسان حاله يقول لم يعد أمامنا سوي الرهان علي بني شيبان فهم أملنا الأخير في هذا الصراع الملتهب مع المأمون فاستدعاه وقال له كما جاء في تاريخ الطبري : يا أبا الحارث، إنا وإياك نجري إلى غاية، إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شعب من أصل، إن قوي قوينا، وإن ضعف ضعفنا، إن هذا (يقصد الأمين) قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء (الحمقاء)، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا، وقد أمكن مسامعه من أهل اللهو، فهم يعدونه الظفر، والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل، وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه، وأنت فارس العرب وابن فارسها، قد فزع إليك في لقاء هذا الرجل وأطمعه فيما قبلك أمران، أما أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك، والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك، وقد أمرني الأمين إزاحة علتك وبسط يدك فيما أحببت، غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعجل المبادرة إلى عدوك، فإني أرجو أن يوليك الله شرف هذا الفتح، ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة.
لانبالغ عندما نقول إن «الشيطان يعظ» .. فهذا الفضل بن الربيع يتحدث بلسان الصالحين الحريصين علي لم شعث الدولة في حين أنه أتي بأعمال المفسدين في الأرض!! هل تناسي أنه هو من حرض الأمين علي أخيه المأمون حتي وقعت الدولة العباسية بأسرها في هذه الهوة السحيقة)؟.
نعود إلي القائد أسد بن يزيد الذي رد علي الفضل بن الربيع قائلا: أنا لطاعة أمير المؤمنين- أعزه الله- وطاعتك مقدم، ولكل ما أدخل الوهن والذل على عدوه وعدوك حريص، لكن ملاك القائد الجنود، وملاك الجنود المال،
والذي أسأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة، ويحمل معهم أرزاق سنة، ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور.
فقال: قد اشتططت، (يعني بالغت في مطالبك)، ولابد من مناظرة أمير المؤمنين ثم ركب وهو معه، يقول أسد بن يزيد: فدخل قبلي على محمد، وأذن لي فدخلت، فما كان بيني وبينه إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي.
فما الذي أغضب الأمين من كلام أسد بن يزيد؟ ولماذا حبسه في ذلك الوقت العصيب وهو في أمس الحاجة إلي قائد بارع يضارع طاهر بن الحسين في براعته الحربية ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .