صلاح رشاد .. يكتب: الفضل بن سهل رجل المرحلة عند «المأمون»
شاور عبدالله المأمون رجاله وقواد أبيه الذين كانوا معه فيما يفعله ردا علي موقف الفضل بن الربيع، الذي سلب منه أدوات قوة مهمة بإرجاع الجيش إلي بغداد متجاهلا وصية الرشيد ومعلنا عن بداية تصادمية مع المأمون ليس لها ما يبررها .
أشار البعض علي المأمون بأن يرسل جيشا صغيرا من ألفي فارس يذكر جيش الرشيد بوصية أبيه، وأن يعودوا معهم إلي مدينة مرو موطن المأمون في ذلك الوقت، فنظر المأمون إلي الفضل بن سهل ليسمع منه رأيه وكان مقربا جدا من المأمون لدرجة أنه كان لا يحسم أمرا دون الرجوع إليه فقال له ابن سهل: من سترسلهم سيكونون غنيمة لجيش الأمين فاحتفظ بهم ليكونوا لك عونا في قادم الأيام .
وإذا جاءت سيرة الفضل بن سهل يجب أن نتوقف عنده طويلا لأنه كان من أهم رجال هذه المرحلة الملتهبة في دولة بني العباس.
الفضل بن سهل كان وزير المأمون وصاحب تدبيره، وُلِدَ في سَرَخْس سنة 154هـ، وكان مجوسياً فأسلم على يد المأمون 190هـ، وقيل إن أباه سهلا أسلم على يدي الخليفة محمد المهدي جد المأمون.
كان يُلقَّب بذي الرياستين لأنه تقلد شئون الوزارة والحرب.
كان الفضل بن سهل حازماً، عاقلاً، فصيحاً، وعندما عزم يحيى البرمكي على أن يجعل الفضل في خدمة المأمون، وصفه يحيى بحضرة هارون الرشيد، فقال له الرشيد: أوصله إلي، فلما وصل إليه أدركته حيرة فسكت، فنظر الرشيد إلى يحيى نظر منكر لاختياره، فقال ابن سهل: يا أمير المؤمنين، إن من أعدل الشواهد على فراهة المملوك أن يملك قلبه هيبة سيده، فقال الرشيد: لئن كنت سكت لتصوغ هذا الكلام فلقد أحسنت، وإن كان بديهةً إنه لأحسن وأحسن، ثم لم يسأله بعد ذلك عن شيء إلا أجابه بما يصدق وصف يحيى له.
وكان الفضل منجما ومن أعلم الناس بعلم الفلك والنجوم، وأكثرهم إصابة في أحكامه، ومن إصاباته ما حكم به على نفسه، وذلك أن المأمون طالب والدة الفضل بما خلَّفه بعد موته، فحملت إليه سلة مختومة مقفلة، ففتح قفلها، فإذا صندوق صغير مختوم، وإذا فيه درج، وفي الدرج رقعة من حرير مكتوب فيها بخطه:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى الفضل بن سهل على نفسه، قضى أنه يعيش ثمانيةً وأربعين عاماً، ثم يُقْتَل ما بين ماء ونار.
فعاش هذه المدة ومات مقتولا في حمام بسرخس.
واذا كان يحيي بن خالد البرمكي هو السبب الرئيس في قيام دولة الرشيد بعد أن أنقذه من الخلع في عهد أخيه موسي الهادي ، فإن الفضل بن سهل كان أيضا السبب الرئيس في قيام دولة المأمون، فلم تكن هناك عقدة يعقدها الأمين وحزبه إلا ويحلها الفضل بن سهل، ولم تكن هناك نار إلا ويطفئها الفضل، وما وقع المأمون في مشكلة أو أزمة إلا ووجد الحل عند الفضل، حتي عندما فكر المأمون في الاستجابة لأخيه محمد الأمين والتنازل عن ولاية العهد، قوي الفضل قلبه وقال له إصبر وأنا أضمن لك الخلافة.
ولم يستطع دهاء ومكر الفضل بن الربيع، أن يصنع شيئا أمام دهاء ومكر الفضل بن سهل، وكان الاثنان بالفعل من شياطين الإنس، خاصة أن مصلحتهما الشخصية كانت المحرك الأساسي لكل الأحداث علي حساب الدولة والناس والبشر والحجر .. وفي طريق تحقيق مصلحتهما لم يبال الإثنان بأنهار الدماء التي ستسفك وآلاف الأسر التي ستشرد ومئات البيوت والقصور التي ستخرب، والدولة التي سينفرط عقدها .
وجاء في كتاب عصر المأمون لأحمد الرفاعي أن مؤدب المأمون قال للفضل بن سهل في عهد الرشيد: إن المأمون جميل الرأي فيك، وأظنه سيمنحك ألف ألف درهم، فقال الفضل : هل أسأت إليك، قال الرجل: ما قلت ذلك إلا محبة لك، فقال الفضل بن سهل: والله ما صحبت المأمون لأحصل علي مال قل أو كثر، وإنما لكي يمضي حكم خاتمي في المشارق والمغارب !! وهذا ما حدث بعد فترة زمنية وجيزة .
وسير الأحداث في الحلقات المقبلة سيثبت لنا كم كان هذا الرجل داهية قادرا علي المناورات ومباغتة حزب الأمين، بل نجح أيضا في زرع عيون له عند الأمين يأتونه بالأخبار الدقيقة والتفاصيل المهمة، مما جعله علي علم بكل ما يجري في بغداد وما يدبره الأمين للمأمون .
وفي الحلقة المقبلة إن شاء الله نتحدث عن حاشية السوء وكيف زينت للأمين خلع أخيه وجعلته يرفض السماع للأصوات العاقلة التي حاولت منع هذا القرار الكارثي.