تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: الفضل بن سهل يكتب روشتة النجاة للمأمون

كان الموقف صعبا علي المأمون بعد أن نجح أخوه الأمين في محاصرته وشعر المأمون بأن الأرض تهتز تحت قدميه فاستنجد بالفضل بن سهل الذي كان يلجأ إليه في الأمور العظام ويسترشد برأيه في الشدائد، فقال له ابن سهل: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا تجعل علينا سبيلًا وأنت تجد من ذلك بدًّا.

قال المأمون : وكيف يمكنني التمسك بموضعي ومخالفة محمد الأمين وغالبية القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده، وإنما الناس مائلون مع الدراهم منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة؟
(صدق المأمون فالأموال تشتري النفوس والقلوب بل هناك من يبيع دينه بعرض من الدنيا )

فقال له الفضل: إذا وقعت التهمة حق الاحتراس، وأنا لغَدْر محمد مُتخوِّف، ومن شَرَهِه إلى ما في يديك مشفق، ولأن تكون في جندك وعزك مقيمًا بين ظهراني أهل ولايتك أحرى، فإن دهمك منه أمر جردت له وناجزته وكايدته، فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو كانت الأخرى فمِتْ محافظًا مُكرمًا غير مُلقٍ بيديك ولا مُمكِّنٍ عدوك من الاحتكام قي نفسك ودمك.

قال المأمون : إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة من أمري وصلاح من الأمور كان خطبه يسيرًا، والاحتيال في دفعه ممكنًا، ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان، واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقة جيغويه الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيُّؤ ملك كابل للغارة على ما يليه من بلاد خراسان، وامتناع ملك أترابنده عن دفع الضريبة التي كان يؤديها، وما لي بواحدة من هذه الأمور يدٌ، وأنا أعلم أن محمدًا لم يطلب قدومي إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به وببلاده، حتي آمن على نفسي وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي.

(لم نتجاوز الحقيقة عندما قلنا إن الفضل بن سهل كان رجل تلك المرحلة بامتياز فقد أوشك المأمون علي اليأس والهروب إلي خاقان ملك الترك خوفا من غدر أخيه الأمين .. وكان ذلك سيحدث لولا وجود الفضل بن سهل).


فقال الفضل للمأمون : أيها الأمير، إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعة الظلم والبغي غير مأمون شرها، ورُبَّ مستذلٍّ قد عاد عزيزًا، ومقهور قد عاد قاهرًا مستطيلًا، وليس النصر بالقلة والكثرة، وجرح الموت أسلم من جرح الذل والضيم، وما أرى أن تفارق ما أنت فيه، وتصير إلى طاعة محمد متجردًا من قوادك وجندك كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه فتدخل في جملة أهل مملكته من غير أن تُبلي عذرًا في جهاد ولا قتال، ولكن اكتب إلى جيغويه وخاقان، فولِّهما بلادهما، وعِدْهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان وسَلْه المُوادعة تجدْه على ذلك حريصًا، وسلِّم لملك أترابنده ضريبته في هذه السنة، وصيِّرها صِلةً منك وصلْتَه بها، ثم اجمع إليك أطراف بلادك، واضمُم إليك من شذَّ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال، فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان قادرًا.

فعرف المأمون أن رأي ابن سهل هو الصواب فقال: اعمل في هذا الأمر وغيره من أموري بما ترى.

وأنفذ المأمون الكتب إلى رجاله وأنصاره، وعمل على لمِّ شعثه ورأب صَدْعه، واستقدم طاهر بن الحسين، واليه على الري، ليعهد إليه في قيادة جنده، ثم مكث يُدبِّر الرأي فيما يجيب به أخاه، واستقر رأيه على مناجزة أخيه ومنازلته، بعد أن أعلمه ابن سهل أن النصر له، وأن النجوم تنبئ بذلك..وكان الفضل منجما كما قلنا.

ورد المأمون علي كتاب الأمين قائلا: أما بعد، فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين، وإنما أنا عامل من عماله، وعون من أعوانه، أمرني الرشيد، صلوات الله عليه، بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله من عدو أمير المؤمنين، ولعمري إن مقامي به أعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطًا بقربه، مسرورًا بمشاهدة نعمة الله عنده، فإن رأى أن يُقرِّني على عملي، ويعفيني من الشخوص إليه فعَل إن شاء الله. والسلام.

ثم دعا العباس بن موسى وعيسى بن جعفر ومحمدًا وصالحًا فدفع إليهم الكتاب، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى أخيه الأمين ما تهيأ له من ألطاف ونفائس خراسان، وسألهم أن يُحسِّنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره لديه.

فماذا كان موقف الأمين ورد فعله ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى