صلاح رشاد .. يكتب : الملك العضوض والأثمان الباهظة (11)
البطانة الصالحة تنقذ سليمان
كان المسلمون في مستهل عهد سليمان بن عبدالملك يعتبرونه مفتاح الخير لأنه خلصهم من كل عمال الحجاج وأطلق الأسري وأخلي السجون .. وكان سليمان فصيحا بليغا ومما قاله في خطبة خلافته التي كانت مليئة بالحكم والمواعظ:
“أيها الناس، أين الوليد وابو الوليد وجد الوليد وخلفاء الله، وأمراء المؤمنين، وساسة الرعية؟ أسمعهم الداعي، وقبض العارية معيرها، وانقضت بهم المدة، ورفضتهم الأيام فسلبوا عن السلطنة، وذهب عنهم طيب الحياة، فارقوا والله القصور وسكنوا القبور، واستبدلوا بلين الوطاء خشونة الثرى، فهم رهائن التراب إلى يوم الحساب، فرحم الله عبداً مهد لنفسه، واجتهد لدينه، وأخذ بحظه، وعمل في حياته، وسعى لصلاحه، وعمل ليوم، ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ )
ألا فإن الله سائل كلا عن كل، فمن صحت نيته ولزم طاعته كان الله له بصراط التوفيق، فاقبلوا العافية فقد رزقتموها، والزموا السلامة فقد وجدتموها، فمن سلمنا منه سلم منا، ومن تاركنا تاركناه، ومن نازعنا نازعناه.
فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم، وطاعة سلطانكم، فإني والله غير مبطل حداً، وقد عزلت كل أمير كَرِهَتهُ رعيته، ووليت أهل كل بلد مَن أجمع عليه خيارهم، واتَّفَقَت عليه كلمتهم، وأنا أسأل الله العون على صلاحكم فإنه مجيب السائلين.”
مال سليمان إلى الموادعة والأخد برأي أهل العلم، والتمسك بتعاليم الإسلام، فكتب إلى عُمَّاله : “إن الصلاة قد أُميتت فأحيوها بوقتها”، كما انتهج منهج الشورى، مما جعله يحظي بإشادة بعض المؤرخين.
قال المسعودي: «كان سليمان لين الجانب، لا يعجل إلى سفك الدماء، ولا يستنكف عن مشورة النصحاء.
وقال الامام ابن كثير: يرجع سليمان رحمه الله إلى دين وخير ومحبة واتباع للحق وأهله واتباع للقرآن والسنة وإظهار الشرائع الإسلامية.
وقال جلال الدين السيوطي: «كان من خيار بني أمية، وكان مؤثرًا للعدل محبًا للغزو.
ووصفه لسان الدين بن الخطيب بقوله: كان قائماً برسوم الشريعة.
وقال ابن قتيبة: «افتتح سليمان بخير وختم بخير لأنه رد المظالم إلى أهلها، ورد المسيرين وأخرج المسجونين الذين كانوا بالبصرة.
وكانت البطانة الصالحة سبب هذا التغيير الكبير في سياسة الحكم الأموي، فكان مستشار سليمان المقرب هو ابن عمه العظيم وزوج أخته عمر بن عبد العزيز ،أما وزيره فهو شيخه ومعلمه رجاء بن حيوة، وما أدراكم ما رجاء، فهو التابعي الفقيه أحد مفاخر أهل الشام علي مر العصور .
قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :رجاء بن حيوة هو الإمام القدوة الوزير العادل أبو نصر الكندي الأزدي الفلسطيني، الفقيه، من جلة التابعين قال ابن سعد كان ثقة ، عالما ، فاضلا ، كثير العلم .
عن مطر الوراق ، قال : ما رأيت شاميا أفضل من رجاء بن حيوة .
وقال ضمرة، عن رجاء بن أبي سلمة: ما من رجل من أهل الشام أحب إلي أن أقتدي به من رجاء بن حيوة .
وكان عبد الله بن عون إذا ذكر من يعجبه، ذكر رجاء بن حيوة. قال الأصمعي: سمعت ابن عون يقول : رأيت ثلاثة ما رأيت مثلهم: محمد بن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام .
عن رجاء بن حيوة، قال: كنت واقفا على باب سليمان إذ أتاني آت لم أره قبل ولا بعد، فقال : يا رجاء، إنك قد ابتليت بهذا وابتلي بك (يعني أن يكون وزيرا لسليمان)، فعليك بالمعروف وعون الضعيف، يا رجاء، من كانت له منزلة من سلطان، فرفع حاجة ضعيف لا يستطيع رفعها، لقي الله وقد شد قدميه للحساب بين يديه.
قال مسلمة بن عبد الملك أبرز وأشهر قادة بني امية: برجاء بن حيوة وبأمثاله ننصر.
قال ابن حبان في مشاهيره: كان رجاء من عباد أهل الشام وزهادهم وفقهاء التابعين وعلمائهم مات سنة 112 هجرية في خلافة هشام بن عبدالملك .
وكان رجاء هو معلم سليمان وشيخه فكان يجعله قيَّمًا على عُمَّاله وولاته وحتى أولاده.
قال سعيد بن صفوان عن رجاء: “وكانت له من المنزلة عند سليمان بن عبد الملك ما ليس لأحد، يثق به ويستريح إليه.
وكان من أوائل أعمال سليمان أن عزل ولاة وعمَّال الحَجَّاج، ومعاقبة آل الحجاج بن يوسف.
فماذا فعل سليمان في ولاية العهد ؟
وكيف جاء اختيار عمر بن عبد العزيز للخلافة ؟
الإجابة في الحلقة المقبلة إن شاء الله.