صلاح رشاد .. يكتب : الملك العضوض والأثمان الباهظة (13)
رجاء بن حيوة .. مفتاح اختيار «عمر»
في مرض موت سليمان بن عبدالملك سلم أمره لوزيره ومستشاره رجاء بن حيوة، فلما احتضر سليمان، عهد في كتاب كتبه لولد له لم يبلغ .. فقال له، رجاء : ما تصنع يا أمير المؤمنين إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على الناس الرجل الصالح.
فقال سليمان: أستخير الله وأنظر.
فمكث سليمان يومًا أو يومين ثم دعا رجاء، فقال: ما ترى في ولدي داوود، قال رجاء: إنه غائب عنك في جيش القسطنطينية ولا تدري أحي هو أو ميت.
(كان سليمان قد أرسل جيشا لفتح القسطنطينية بقيادة أخيه مسلمة)
قال سليمان : فكيف ترى عمر بن العزيز، قال رجاء: أعلمه والله خيرًا فاضلًا.
قال سليمان: هو على ذلك ولئن وليته ولم أول أحدًا سواه لتكونن فتنة ولا يتركونه أبدًا يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده ( يقصد إخوته وآل بيت أبيه عبد الملك ).
وكان عبد الملك بن مروان قد عهد إلى الوليد وسليمان أن يجعلا أخاهما يزيدا ولي عهد فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر.
وأرسل إلى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته (صاحب الشرطة في أي ولاية إسلامية كان بمثابة مدير الأمن وفي عاصمة الخلافة كان بمثابة وزير الداخلية )، فقال: ادع أهل بيتي.. فجمعهم كعب.
ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي إليهم و أخبرهم بكتابي ومرهم فيبايعوا من وليت فيه.
ففعل رجاء فقالوا: ندخل ونسلم على أمير المؤمنين، قال: نعم.
فدخلوا فقال لهم سليمان: في هذا الكتاب _وهو يشير إلى الكتاب الذي في يد رجاء بن حيوة _عهدي فاسمعوا وأطيعوا لمن اخترته.
فبايعوه رجلًا رجلًا وتفرقوا.
وقال رجاء: فأتاني عمر بن عبد العزيز، فقال: أخشى أن يكون سليمان أسند إلي شيئًا من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ذلك.
قال رجاء: ما أنا بمخبرك حرفًا، قال: فذهب عمر عني غضبان.
قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك فقال: إن لي بك حرمةً ومودة قديمة فأعلمني بهذا الأمر فإن كان إلى غيري تكلمت والله علي ألا أذكر شيئًا من ذلك أبدًا.
قال رجاء: فأبيت أن أخبره حرفًا فانصرف هشام وهو غاضب.
( عمر بن عبد العزيز يخشي أن يتولي الخلافة وهشام بن عبد الملك يخشي أن تفوته الخلافة، ما أبعد الفارق والله بين طالب الدنيا وطالب الآخرة).
قال رجاء: ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، ويقول : يا رجاء إن كنت تريد شيئًا.. أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله .. ومات، فلما غمضته وسجيته وأغلقت الباب أرسلت إلي زوجته فقالت: كيف أصبح فقلت: هو نائم قد تغطى.
قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن جابر صاحب الشرطة فجمع أهل بيت سليمان فاجتمعوا في مسجد دابق فقلت: بايعوا.
فقالوا قد بايعنا مرة.
قلت: هذا عهد أمير المؤمنين .. فبايعوا الثانية فلما بايعوا بعد موته رأيت أني قد أحكمت الأمر فقلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات.
قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقرأت الكتاب فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا نبايعه والله أبدًا.
قلت: أضرب والله عنقك قم فبايع فقام يجر رجليه .. ولم ينسها هشام لرجاء بعد ذلك.
وبهذه الخطة المحكمة التي وضعها رجاء بن حيوة،تولي عمر بن عبدالعزيز رحمه الله الخلافة، وكانت أيامه القليلة نورا وضياء نشرا أشعتهما الذهبية علي أرجاء الدولة الإسلامية من مشرقها إلي مغربها .. فرحم الله عمر بن عبدالعزيز ومن سار علي نهجه إلي يوم الدين.
وإلي حلقة مقبلة إن شاء الله.