تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (30)

بداية دموية للمنصور

بعد 4 سنوات من خلافته، مات أبو العباس السفاح، وهو في عنفوان شبابه وسلطانه متأثرا بإصابته بالجدري، وبمجرد موته، رجع عبد الله بن علي والي الشام بجيشه الذي كان ذاهبا للإغارة علي حدود الروم، وبدأ يعد العدة لإعلان نفسه خليفة، وكما قلنا قبل ذلك عند الحديث عن عبدالله بن الزبير، فلحظات التاريخ المفصلية لا تتحمل أي أخطاء لأن الثمن يكون ضياع كل شيئ.

كان أبو جعفر المنصور وقتها عائدا من رحلة الحج، ووضع القائد العسكري إسحاق العقيلي رفيق المنصور في رحلة الحج السيناريو الأفضل لعبد الله لحسم الأمور لصالحه، لكنه لم يفعل مما جعله يخسر الصراع في نهاية المطاف.

وكان إسحاق بن مسلم العقيلي وفيا للأمويين محبا لدولتهم .. وكان ذلك منطقيا خاصة أنه كان من رجالها البارزين في عهد مروان بن محمد.

قال المدائني في تاريخه: حاصر عبد الله بن علي إسحاق بن مسلم العقيلي بسميساط، أو بسروج (مدينتان بتركيا حاليا) أيام ولايته للشام في عهد أبي العباس السفاح فقال له إسحق : إن في عنقي بيعة فأنا لا أنكثها وسأظل متمسكا بها حتى أعلم أن صاحبها قد هلك، فقال له عبد الله: إن مروان قد قتل، فلما تيقن من ذلك طلب الصلح والأمان فأعطاه إياه وذهب إسحاق إلى أبي العباس فكان من المقربين عنده وعند أبي جعفر الذي ولاه أرمينية عندما تولي الخلافة.

عن المدائني، قال: جلس أبو العباس السفاح للناس ذات يوم، فقام رجل فذم أهل الشام والجزيرة، فقال له إسحاق: كذبت يا ابن الزانية، فقال زياد بن عبيد الله: خذ للرجل بحقه يا أمير المؤمنين (يعني يطبق حد القذف علي إسحاق)، فتعامل أبو العباس مع هذا الموقف بذكاء فقال: أترى قيسا ترضى بأن يضرب سيدها حدا؟.. لو دعوته بالبينة لجاء مائة من قيس يشهدون علي قوله، فترك الرجل مطالبته بإقامة الحد علي إسحق العقيلي خوفا علي سمعة أمه !! (يعني دائما وعلي مر الزمان يجد الحكام والسلاطين _إلا من رحم الله_ المخارج والثغرات لعلية القوم، أما عوام الناس فيطبق عليهم القانون بلاهوادة).

نعود إلي المنصور الذي بعث إلى إسحاق بن مسلم عندما وصله خبر وفاة أخيه السفاح، وكان إسحق مع المنصور عند منصرفه من مكة عائدين من رحلة الحج، فتكلم معه بكلام عام في البداية فقال له: إنه يخطر ببالي ما يعرض للناس من الفكر، فقلت: إن الأحداث غير مأمونة، فلو حدث بأمير المؤمنين حدث ونحن بالموضع الذي نحن فيه كيف كان الرأي وما ترى عبد الله بن علي يصنع؟.

(تناسي المنصور أنه يتحدث مع داهية مجرب عركته الأحداث والحروب لا ينخدع بسهولة)

فقال له إسحاق: أيها الأمير ليس لمكذوب رأي، أصدق الحديث أنصح لك الرأي، فأخبره الخبر بوفاة أخيه أبي العباس السفاح وخروج عمه عبدالله، وسأله عن رأيه، فقال: إن كان عمك عبد الله ذا حزم بعث حين يصل إليه الخبر خيلاً فتلقاك في هذا الموضع الذي نحن فيه، فتحول بينك وبين دار الملك، وأخذتك فأتته بك أسيراً قال: ويحك إن لم يفعل هذه، دعني عنها، قال: يقعد على دوابه فإنما هي ليال يسيرة حتى يقدم الأنبار (وكانت عاصمة الخلافة العباسية قبل بناء بغداد)، فيحتوي على بيوت الأموال والخزائن، فيصير طالباً وأنت مطلوب، فإن لم يوفق قبل ذلك فلا حياة لعمك.

(هذه الشخصيات لم تحجز لنفسها مكانا في التاريخ من فراغ وإنما لأنها كانت تملك عقولا محشوة ذكاء وفطنة وبعد نظر .. وطبعا ليس ببعيد أن يكون المنصور قال في نفسه بعد هذه الردود المرعبة: الحمد لله أن هذا الداهية ليس مع عمي عبدالله والا كان حسم الأمر له).

ولما مات إسحاق بن مسلم، حضر المنصور جنازته، وحمل سريره حتى وضعه وصلى عليه، وجلس عند قبره، فقال له موسى بن كعب أحد رجالاته: أتفعل هذا به؟! وكان والله مبغضاً لك، كارهاً لخلافتك، فقال: ما فعلت هذا إلا شكراً لله إذ قدمه أمامي، قال: أفلا أخبر أهل خراسان بهذا من رأيك فقد دخلتهم وحشة لك لما فعلت، قال: بلى، فأخبرهم فكبروا.

(موسي بن كعب من الشيعة العباسية بخراسان وانكشف أمره في عهد واليها للأمويين أسيد بن عبد الله البجلي، فأمر به فألجم بلجام، ثم كسرت أسنانه، فلما أصبح للعباسيين دولة رفعوا مكانته وولاه المنصور مصر، فكان موسى يقول: كان لنا أسنان وليس عندنا خبز، فلما جاء الخبز ذهبت الأسنان) (وهكذا الدنيا إذا أعطت شيئا أخذت أشياء، ومع ذلك يتكالب عليها أهلها ولايملون من الإفتتان بها )

ونتحدث في الحلقة المقبلة إن شاء الله عن تطورات الصدام بين المنصور وعمه عبدالله بن علي.

 

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى