صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (50)
هل قتلت الخيزران ابنها الهادي ؟!
صراع الملك والسلطان في الدولتين الأموية والعباسية يثبت لنا أنه لا عجب ولا غرابة في الطريق إلي السلطة ، كل الوسائل مباحة لأن الدين علي الهامش والضمير في أجازة ، والخوف من الله مؤجل إلي لقاء الله .. وحاشية السوء وعلماء السلطان قادران دائما علي إيجاد مبررات تريح صاحب السلطة، وتجعله لا يشعر بالانزعاج أو الخوف أو القلق من أي وسيلة يلجأ إليها في طريقه توطيد ملكه وسلطانه.
المواجهة النارية التي حدثت بين الهادي وأمه في بداية خلافته والتي تحدثنا عنها قبل ذلك، وضعت حاجزا بين الخيزران وابنها، خاصة أنها حملت تهديدا صريحا لأمه ولأي قائد من قواد الدولة الكبار يلجأ إلي أمه أو يطلب منها التدخل في شيء.
وبعدها لم يعد هناك كلام أو تواصل خاصة بعد أن قال الهادي: ما أفلح خليفة له أم.
لكن هل أقدم الهادي علي قتل أمه من خلال طعام مسموم أرسله لها ؟ هناك رواية تقول إنه أرسل إليها “أرزاً مطبوخاً” لكن إحدي جواريها خافت من هذا الطعام وطلبت من سيدتها أن تقدم الطعام لكلب فمات، ما يعني أن الأرز كان مسموما .
هل حدث ذلك بالفعل ؟
لا نستطيع أن ننفي أو نؤكد فهذا صراع علي الدنيا غير مستبعد فيه استخدام أحقر الوسائل وأحطها.
ردت الخيزران علي ذلك بأن استغلت مرض ابنها فأرسلت جاريتين وضعتا وسادتين علي رأسه وضغطتا عليه حتي مات، هذه أيضا رواية غير مستبعدة في ظل هذا المناخ الدموي السوداوي.
رواية أخري تقول إنه مات بقرحة في جوفه.
رواية ثالثة تقول إنه مرض عندما كان في مدينة الموصل ثم مات سريعا .
لكن كثرة الروايات دون التمسك برواية بعينها والبحث في شخوصها وملابساتها يجعل الغموض هو سيد الموقف، ويعيدنا الي نقطة الصفر.
فكل شيء وارد لكننا في نفس الوقت لا نستطيع أن نجزم بأن رواية بعينها هي التي حدثت علي أرض الواقع .. خاصة أن المؤرخين كانوا ينقلون الروايات علي كثرتها دون أن يميلوا إلي رواية بعينها ويحاولوا التأكد من صدقها بالذات.
أيا كانت الطريقة التي مات بها موسي الهادي في عز شبابه فقد ابتسمت الدنيا لأخيه الشقيق هارون الرشيد، فتولي مقاليد الأمور بعد موت الهادي وكان في الثانية والعشرين من عمره علي أرجح الروايات كما جاء في تاريخ الامام ابن كثير.
ويقال إنه لما مات الهادي في الليل جاء يحيى بن خالد البرمكي إلى الرشيد فوجده نائما فقال: قم يا أمير المؤمنين.
فقال له الرشيد: كم تروعني، لو سمعك هذا الرجل (يقصد أخاه موسي الهادي) لكان ذلك أكبر ذنوبي عنده؟
فقال: قد مات الرجل.
فجلس هارون فقال: أشر عليّ في الولايات، فجعل يذكر ولايات الأقاليم لرجال يسميهم فيوليهم الرشيد، فبينما هما كذلك إذ جاء آخر فقال: أبشر يا أمير المؤمنين فقد ولد لك الساعة غلام، فقال الرشيد: هو عبد الله وهو المأمون.
ولذلك سميت هذه الليلة بليلة الخلفاء، لأنها شهدت موت خليفة هو موسي الهادي، وتولي خليفة هو هارون الرشيد، ومولد خليفة هو عبد الله المأمون.
ثم أصبح الرشيد فصلى على أخيه الهادي، ودفنه بعيساباذ، وحلف لا يصلي الظهر إلا ببغداد.
فلما فرغ من الجنازة أمر بضرب عنق أبي عصمة القائد وكأنه فضل أن يبدأ عهده بالدماء التي كانت عنوان دولة بني العباس!
وجريمة القائد أبي عصمة أنه كان مع جعفر بن الهادي، فزاحما الرشيد على جسر فقال أبو عصمة: اصبر وقف حتى يجوز ولي العهد.. (كان ذلك في الفترة التي يضغط فيها الهادي لخلع أخيه الرشيد وتولية إبنه جعفر مكانه، وكان أبو عصمة من القادة الذين أيدوا الهادي في هذه الخطوة)
فقال الرشيد: السمع والطاعة للأمير.
فجاز جعفر وأبو عصمة ووقف الرشيد مكسورا ذليلا.
وطبعا لم ينس الرشيد انكساره وذله وقرر أن ينتقم من أبي عصمة إذا قدر عليه وعندما أصبح خليفة سارع بقتل أبي عصمة!
ولما مات الهادي هجم خزيمة بن حازم أحد كبار القواد تلك الليلة على جعفر بن الهادي فأخذه من فراشه، وقال له: لتخلعنها أو لأضربن عنقك؛ فأجاب إلى الخلع وركب من الغد خزيمة، وأظهر جعفراً للناس فأشهدهم بالخلع، وأحل الناس من بيعته، فحظي بها خزيمة عند الرشيد .
ولم يفكر هارون في أن يؤذي ابن أخيه لأنه كان صبيا صغيرا لا حول له ولا قوة ولا ذنب له فيما أراده له أبوه، وأوفي الرشيد بعهده لأخيه الهادي فأكرم أولاد الهادي بعد ذلك وعاملهم بما تستحق الرحم والقرابة القريبة، وكانوا سبعة ذكور وبنتين، وزوج البنتين، واحدة لابنه المأمون والثانية لابن آخر له.
ورغم المزايا الكثيرة التي كان يتمتع بها الرشيد ورغم أن عصره كان من أزهي وأبهي العصور في تاريخ الخلافة الإسلامية كلها وليس في دولة بني العباس فحسب إلا انه أيضا لم يسلم من صداع ولاية العهد، وارتكب أخطاء كارثية دفعت الدولة والجيش والناس ثمنا باهظا لها، نكشف النقاب عنها في الحلقات المقبلة إن شاء الله .