عام

صلاح رشاد .. يكتب : الملك العضوض والأثمان الباهظة (51)

الرشيد حائر بين عقله وقلبه

عاشت الخيزران ثلاثة أعوام في خلافة ابنها هارون الرشيد تمتعت فيها بكل ما تريد من نفوذ وسلطان، برضا الرشيد ومباركته، فلم يغضب أمه ولم يجد غضاضة في أن تأمر وتنهي، وعادت الوفود والمواكب إلي أبواب قصرها من جديد، وكانت الخيزران مع يحيي بن خالد البرمكي هما الحاكم الفعلي للدولة العباسية في بدايات عهد الرشيد.

وقد حزن هارون علي أمه حزنا شديدا عندما ماتت بعد ثلاث سنوات من خلافته، وسار حافيا في جنازتها ففرشوا له اللبود (سجاد من الصوف الخشن) فأقدام الملوك الناعمة لاتتحمل الأرض الخشنة !!.

ورغم أن الرشيد كان من أفضل ملوك بني العباس وأكثر ملوك الدنيا في زمنه شهرة وسلطانا، إلا أنه وقع في خطأ كارثي جر علي دولتهم مصائب كثيرة عندما جعل ولاية العهد في ولديه الأمين ثم المأمون.

كانت البداية بمحمد الأمين عام 175 هجريا وكان الأمين في الخامسة من عمره، نفس الخطأ المتكرر وكأن السلطة تلغي العقول أو تمنعها من التفكير السليم، وما قلناه عن موسي الهادي نعيد قوله عن أخيه هارون الرشيد الذي كان في ذلك الوقت في السابعة والعشرين من عمره، فلماذا هذا التسرع والانشغال بولاية العهد، والأبناء ما زالوا أطفالا صغارا لا يعرفون سوي اللعب واللهو !!

كان المأمون يكبر أخاه الأمين ببضعة شهور، لكن الأمين كان ابن حبيبة قلب الرشيد وابنة عمه وزوجته المفضلة زبيدة، فكان محمد الأمين هاشمي الأب والأم ولم يحظ خليفة بهذا النسب الشريف في تاريخ الإسلام سوي محمد الأمين بن الرشيد، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه .. طبعا مع الفارق الشاسع بعد ذلك في كل شيء بين محمد الأمين وأحد أبرز عظماء الإسلام علي رضي الله عنه.

لم يكتف الرشيد بولي عهد واحد ولم يتعظ مما حدث له من أخيه الهادي الذي كان يضيق الخناق عليه ليخلعه و لولا موته المبكر لنجح الهادي في خلع الرشيد، هذه التجربة المريرة لم يضعها هارون في الاعتبار، وأصر علي وجود ولي عهد ثان هو عبد الله المأمون .

نحاول الاقتراب من الرشيد ونعرف الأسباب التي دفعته لاتخاذ ولي عهد ثان هو المأمون بعد أخيه الأمين.

كان عبد الله المأمون يكبر أخاه الأمين ببضعة شهور وبعد أن كبر الطفلان ووصلا إلي مشارف الشباب بدأت تظهر الفوارق بينهما، وكانت ترجح كفة المأمون الذي كان أعقل وأحكم وأدهي، وكان الرشيد يعلم جيدا أن المأمون يفوق أخاه الأمين، وكان يقول عنه: فيه حزم المنصور ونسك المهدي وعزة الهادي، ولو أحببت أن أنسبه للرابع لنسبته “يقصد نفسه” .

لكن جاء اختيار الأمين كولي عهد تحت ضغط زبيدة وضغط البيت العباسي، في حين أن المأمون لا بواكي له لأنه ابن جارية فارسية وقيل إنها كانت جارية محدودة الجمال وتعمل في مطبخ زبيدة .

سنسير وراء هذا القول الذي يسلب من أم المأمون أي ميزة ونتساءل كيف لجارية محدودة الجمال جدا ومجرد طباخة عند سيدتها زبيدة تثير الرشيد وتدفعه إلي أن يطأها وقصره مليء بمئات الجواري الحسان ؟!

ورغم أننا لا نميل إلي هذا الكلام الذي يظلم هذه الجارية المسكينة أم المأمون إلا أننا مدفوعون إلي أن نسير وراءه، وفقا لما جاء في كتاب “سمط النجوم العوالي لأبناء الأوائل والتوالي” لعبدالملك بن حسين العصامي، لأنه يكشف لنا عن قصة غريبة وعجيبة وقعت في عهد الرشيد بينه وبين زوجته زبيدة ثم حكتها بعد ذلك للمأمون في خلافته وبينت له كيف قبل أبوه الرشيد أن يطأ جاريتها الدميمة والتي هي في نفس الوقت أم المأمون.

وهذه القصة العجيبة هي محور حديث الحلقة المقبلة إن شاء الله، وهي لا تخرجنا عن صلب الموضوع لأنها في إطار حياة هارون الرشيد وزوجته وأولاده .. وكم كانت حياة صاخبة متقلبة فيها التمتع بالشهوات والملذات، وفيها أيضا الحج والجهاد والبكاء من مواعظ الصالحين.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى