تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (53)

خطة الرشيد لإنقاذ المأمون

في ملف التوريث وقع هارون الرشيد في هوة سحيقة ليس لها قرار رغم عقله وفطنته وهيبته، ورغم انه كان أعلم الناس بقدرات أبنائه وملكاتهم الفردية، لكن الله عز وجل يسبب الأسباب لينفذ قدره في الخلائق أجمعين.

كان المأمون ولي عهد مختلفا عن كل ولاة العهود في تاريخ الإسلام، ليس لما يتمتع به من عقل وحكمة ودهاء وقدرة علي الإفلات من الشدائد و الأزمات، فالموقف هنا ليس له علاقة بأي مهارات شخصية أو مزايا فردية، فقد كان عيسي بن موسي ولي عهد المنصور من أهم سيوف بني العباس في بداية دولتهم ومن رجالات زمانه شجاعة وإدارة وحسن دراية بالأمور، لكنه لم يصمد طويلا في صراعه مع عمه أبي جعفر المنصور الذي لجا إلي سلاحي الترغيب والترهيب حتي رضخ عيسي وتنازل عن ولاية العهد لمحمد المهدي بن المنصور مقابل 10 ملايين من الدراهم.

وكان الرشيد قريبا جدا من الخلع في عهد أخيه الهادي رغم المزايا الفريدة للرشيد ولولا الموت المبكر للهادي لكان جعفر بن الهادي هو الخليفة علي حساب عمه هارون الرشيد .

نقصد من ذلك أن اختلاف وضع المأمون ليس لأنه عبقري عصره أو رجل زمانه، وإنما لسبب آخر مختلف تماما، فقد جرت العادة أن يكون ولي العهد أعزل ليس معه قوة تتيح له الإنقلاب أو التمرد أو فرض رأيه، حتي عندما كان يتولي ولاية صغيرة أو كبيرة في الدولة الأموية وبدايات الدولة العباسية، فكان ذلك بأمر الخليفة الذي يستطيع أن ينزعها منه في أي وقت.

فما هو السلاح الذي قدمه الرشيد لابنه المأمون فجعله في مأمن من غدر أخيه أو علي الأقل قادراً علي المناورة والتصدي للمحنة؟ .. هذا السلاح هو القوة وشبه الاستقلالية، فقد منح الرشيد ابنه المأمون ولاية خراسان وماوراءها حتي الحدود الشرقية لدولة بني العباس، فهي في حوزته قضاء وشرطة وجيشا وبيت مال .. هو من يملك سلطة العزل والولاية في كل أرجاء هذه المنطقة الكبيرة.

وهكذا أصبحت خراسان دولة شبه مستقلة لا يربطها بالخلافة إلا الدعاء للخليفة علي المنابر، وليس من سلطة الأمين عندما يتولي الخلافة أن يعزل أخاه عنها لأن الرشيد منحه السيادة عليها وتمت كتابة هذا البند المهم جدا في كتاب البيعة الذي كتبه كل أخ لأخيه في حضرة أبيهما الرشيد وكبار رجالات الدولة.

ألا يعني ذلك أن الرشيد كان متخوفا من انقلاب الأمين علي المأمون فأراد أن يحمي ولي العهد بقوة تسنده وتدعم موقفه ؟.

دعونا نفتش في عقل الرشيد فربما نصل إلي الحقيقة التي جعلته يقدم علي هذه الخطوة، التي مكنت المأمون من المقاومة بعد ذلك حتي النصر علي الأمين.

ربما ظن الرشيد أن هذه القوة النسبية ستكون عامل ردع للأمين فلا يفكر في خلع أخيه، وربما ظن أن الأمور قد تتفاقم حتي يصل الصدام بولديه إلي أن يحتكما إلي السيف، فأراد أن يمنح المأمون سيفا يواجه به بغي أخيه عليه، وربما فعل ذلك ليمنح المأمون العيش في أمان طوال مدة الأمين، ولا يكون خائفا مهددا ولا يتعرض لنفس الموقف الذي تعرض له الرشيد في حياة أخيه موسي الهادي.

أو ربما أحس الرشيد بالندم لعدم فرضه المأمون كولي عهد أول فأراد أن يقوي موقف ابنه في صدامه المتوقع مع ابنه الآخر، الأمين، وربما وجد الرشيد أن بعض القوة مع المزايا التي يتمتع بها المأمون من دهاء وحسن سياسة وقدرة علي كسب القلوب كفيلة بأن تجعله يحقق النصر علي أخيه.

كلها تكهنات واجتهادات .. لكن تبقي الحقيقة ساطعة وهي أن منح خراسان كدولة شبه مستقلة للمأمون فرضت واقعا جديدا علي الدولة العباسية في خلافة الأمين سنستفيض في الحديث عنه عندما يحين أوان التحدث عن خلافة محمد الأمين.

نترك ولاية العهد قليلا ونتوقف عند عام 187 هجريا، حيث كان قد مر 17 عاما من خلافة هارون الرشيد، والبرامكة يحكمون قبضتهم ويسيطرون علي المشارق والمغارب، المواكب تغدو وتروح إلي قصورهم، والشعراء يتغنون بمزاياهم وسجاياهم، وأمراء البيت العباسي أنفسهم يتوددون إليهم ويتقربون لينالوا رضا الرشيد من خلال هذه الأسرة التي بدت وكأنها وضعت الخليفة صاحب الإسم الرنان في أسر لا فكاك منه ولامهرب.

ولم يدر بخلد البرامكة أن نهايتهم الأليمة قد اقتربت وأن سلطانهم الذي بنوه طوال عهد الرشيد سينهار في غمضة عين.
فماذا حدث ؟
ولماذا انقلب الرشيد علي البرامكة بهذا الشكل الرهيب.
وكيف تناسي أن عميد أسرة البرامكة يحيي بن خالد كان من أهم أسباب خلافته ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى