عام

صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (57)

جعفر من السلطة والهناء إلي دماء وأشلاء

ألقينا الضوء علي علاقة الفضل بن يحيي بالرشيدوكانا أخوين من الرضاعة لأن الخيزران أم هارون الرشيد أرضعته، ونتحدث اليوم عن أيقونة البرامكة والذي كان من أهم أسباب نكبتهم، وهو جعفر بن يحيي.

كان جعفر وسيما أبيض جميلا فصيحا مفوها، أديبا، عذب العبارة، حاتمى السخاء، وكان غارقًا فى لذات دنياه، وكان يقول: إذا أقبلت الدنيا عليك، فأعط، فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت، فأعط فإنها لا تبقى.

قال الخطيب البغدادي : كان جعفر عند الرشيد بحالة لم يشاركه فيها أحد، وجوده أشهر من أن يذكر، وكان من ذوى اللسان والبلاغة، يقال: إنه وقّع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ونظر فى جميعها، فلم يخرج شيئا منها عن موجب الفقه، فقد كان أبوه ضمه إلى القاضى أبى يوسف حتى فقه..(أبو يوسف من أنجب تلاميذ الإمام أبي حنيفة وكان لأبي يوسف منزلة سامية عند الرشيد وجعله قاضي قضاة الخلافة).

يقول المؤرخون :كان لجعفر نبأ عجيب، وشأن غريب، شرك الخليفة في أمواله ولذاته وتصرفه في الممالك، ثم انقلب الحال في يوم وليلة، فقتل، وسجن أبوه وإخوته إلى الممات، فما أجهل من يغتر بالدنيا!

لكن ما يحيرنا كيف لرجل لا يفارق الرشيد في حله وترحاله ولا نبالغ إذا قلنا إن جعفر كان بمثابة ظل الرشيد، فما الذي جعل الرشيد ينقلب علي ظله ويقتله شر قتلة ويشرد هذه الأسرة اللامعة؟.

الأقوال كثيرة والروايات أكثر، نسردها ونحاول أن نضعها بجوار بعضها لتتضح لنا الصورة، فربما نصل إلي حقيقة ما حدث للبرامكة والذي ما خطر علي بال الكثيرين بل ربما ظنه البعض من رابع المستحيلات.

قيل إن اليهودي جبريل ابن بختيشوع طبيب الرشيد كان جالسا عند الخليفة، فدخل يحيى بن خالد، وكان يدخل بلا إذن، فسلم، فرد الرشيد ردا ضعيفا، فوجم يحيى، فقال هارون: يا جبريل، يدخل عليك أحد بلا إذن؟ قلت: لا، قال: فما بالنا؟ فوثب يحيى، وقال: قدمنى الله يا أمير المؤمنين قبلك، والله ما هو إلا شيء خصصتنى به، والآن فتبت، فاستحيا الرشيد، وكان من أشد الملوك حياء، وقال: ما أردت ما تكره، ولكن الناس يقولون.

وقيل: إن يحيى دخل على الرشيد، فقال للغلمان: لا تقوموا له، فتغير لون يحيى وبدأ يدرك أن شمسهم قد أوشكت علي المغيب وأن دولتهم قد قاربت علي الزوال.

وقيل إن الوزير يحيى بن خالد البرمكي كان يضيق على أولاد الرشيد في النفقة، حتى شكته زبيدة عدة مرات إلى زوجها الرشيد.

وفي السنة التي حدثت فيها نكبة البرامكة (187 هجرية )) حج يحيي البرمكي وقد استشعر غضب الرشيد عليه، فجعل يدعو عند الكعبة: اللهم إن كان يرضيك عني سلب مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك بي، وأبق علي منهم الفضل، (كان الفضل أحب أولاد يحيي إليه) ثم خرج، فلما كان عند باب المسجد رجع فقال: اللهم والفضل معهم، فإني راض برضاك عني ولا تستثن منهم أحدا.

وقيل : بل سبب قتل جعفر أن الرشيد سلم له يحيى بن عبد الله بن حسن العلوي، فرق له جعفر، وأطلقه سرا، فجاء رجل يصفه للرشيد، وأنه رآه بحلوان العراقية، فأعطى الرجل مالا .. وقيل بل علم بذلك الفضل بن الربيع حاجب الرشيد فأبلغه، فقال له: الرشيد: ويلك لا تدخل بيني وبين جعفر فلعله أطلقه عن أمري وأنا لا أشعر.

ثم سأل الرشيد جعفرا عن ذلك فصدقه الحال، فتغيظ عليه الرشيد وحلف ليقتلنه وكره البرامكة وغصب عليهم.

وقيل : بل بنى جعفر دارا أنفق عليها عشرين مليون درهم، فأسرف.

وجاءت لحظة الانتقام عاصفة مروعة، فقد بعث الرشيد إلى مسرور الخادم، ومعه أجناد، فأحاطوا بجعفر ليلا، فدخل عليه مسرور، وهو في مجلس لهو، فأخرجه بعنف وقيده بقيد حمار، وأتى به فأمر الرشيد بقتله.

وعن مسرور قال: وقع جعفر على رجلي يقبلها، وقال: دعني أدخل، فأوصي، قلت: لا سبيل إلى ذلك، فأوص بما شئت، فأوصى، وأعتق مماليكه، ثم ذبحته بعد أن راجعت فيه الرشيد، وجئته برأسه، ووجه الرشيد جندا إلى أبيه، فأحاطوا به وبأولاده ومواليه، وأخذت أموالهم وأملاكهم، وبعثت جثة جعفر إلى بغداد، فصلب، ودامت معلقة مدة، وعلقت أطرافه بأماكن، ثم أحرقت، ونودي : ألاّ أمان لمن آوى برمكيا.

وقتل جعفر هذه القتلة الشنيعة وهو في السابعة والثلاثين من عمره وكان يصغر الرشيد بعامين .
وهكذا تحول البرامكة بين عشية وضحاها من زينة الدنيا إلي قتلي ومساجين ومشردين وهاربين ومطاردين ومطلوبين !!!!.
ياله من درس قاس لمن أراد أن يتعظ ..ويثبت لنا أن الدنيا إذا حلت أوحلت وإذا أينعت نعت ، وكم من شخص كانت له علامات فلما علا .. مات.
ونكمل الحديث عن البرامكة في الحلقة المقبلة إن شاء الله .

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى