صلاح رشاد .. يكتب: حاشية الأمين تتربص بالمأمون
عاد الفضل بن الربيع إلي بغداد بمعظم الجيش وهو يدرك أنه قطع حبال الود مع المأمون بعد أن ضرب عرض الحائط بوصية الرشيد، وقرر أن يضع محمد الأمين في قبضته فلا يسمع إلا بأذنيه ولايري إلا بعينيه ولا يستأنس إلا برأيه.
ولم يكن محمد الأمين في هيبة أبيه الرشيد وحزمه وشدة بأسه، بل كان فتي غرا في الثالثة والعشرين من عمره غارقا في الملذات والشهوات، وتتحمل أمه زبيدة جزءا من المسئولية عن عبث الأمين ولهوه وعدم ظهوره بالمظهر الذي يليق بهيبة الخلافة خاصة أنه ورثها عن أبيه المهيب هارون الرشيد.
كان الأمين الابن الوحيد لزبيدة وهناك روايات تقول إنها رأت رؤيا تشير إلي موته المبكر ومعاناته قبل موته، وبعيدا عن هذه الرؤيا فإن قلب الأم تعامل بعاطفية شديدة مع ابنها الوحيد فدللته وشجعته بقصد أو بدون قصد علي أن يغرق في ملذاته وشهواته، ولاشك أن الرشيد أيضا كان مخطئا لأنه تعامل مع ملف التوريث بالعاطفة وليس بالحكمة والنظر لمصلحة الرعية وصلاح المسلمين.
مات الرشيد وتسلم الأمين مقاليد الأمور .. وحتي نكون منصفين نؤكد أن محمدا الأمين لم ينو الغدر بأخيه المأمون ولم يكن عازما علي الإطاحة به علي الأقل في بداية حكمه، لكن كيف للأمين أن يفي لأخيه ولا يهيجه. وهناك حاشية السوء وعلي رأسها الداهية الماكر الفضل بن الربيع الذي يجيد حبك المؤامرات والإيقاع بين المتحابين.
أخطر شيئ علي الدولة أن تبتلي برجل في قلب السلطة لا يري إلا الحكم ولا يستطيع أن يعيش يوما بعيدا عن الجاه والسلطان .. وتزداد الخطورة إذا كان هذا الرجل بارعا في حبك المؤامرات والدسائس، وهذه النوعية من البشر لا تجد غضاضة في سفك أنهار من الدماء وخراب البلدان وتدمير الأوطان وتشريد آلاف الأسر في سبيل مصالحهم الشخصية الضيقة والتي من أجلها يرتكبون كل هذه الأهوال.
وكان الفضل بن الربيع من هذه النوعية المخيفة من البشر، وإذا كان الرشيد بكل سطوته وهيبته واسمه المهيب لم يسلم من لدغات هذا الرجل الماكر، فما بالنا بابنه محمد الأمين الذي لم يرث شيئا من هيبة أبيه أو سطوته، فكان عجينة لينة في يد الفضل بن الربيع يشكلها كيفما يشاء من أجل مصلحته الشخصية.
وقد رأي الفضل بن الربيع أن ما فعله مع عبد الله المأمون ورفضه تنفيذ وصية الرشيد جعله في مرمي غضب المأمون وأنه سينتقم منه شر انتقام إذا وصلت إليه الخلافة، فأصبح شغله الشاغل أن يقطع الطريق علي المأمون ويحرمه من الوصول إلي الخلافة، ولم يبال بالثمن الباهظ الذي ستدفعه دولة بني العباس والرعية من هذا الشر المستطير الذي سيفتح له الباب واسعا، كل ما كان يهم الفضل بن الربيع أن يظل الوزير الحاجب، وليذهب أي شيء بعد ذلك إلي الجحيم .
عامان فقط كان قد مرا من خلافة الأمين حتي بدأت حاشيته تشير عليه بخلع المأمون، خاصة بعد أن شعر الأمين أنه مقصوص الجناحين، فللمأمون خراسان وما حولها حتي حدود الصين، وللقاسم ما بين دجلة والفرات والشام والجزيرة، وكان القاسم الذي لقبه والده الرشيد بالمؤتمن أضعف وأهون شوكة من أخيه المأمون فبدأ الأمين يقتطع أجزاء من ولايته الكبيرة، ولم يكن القاسم ليجهر بالصدام، خاصة أنه المرشح الثالث بعد أخويه، وقد جعل الرشيد أمر المؤتمن بعد ذلك في يد المأمون إن شاء عزله وإن شاء أبقي عليه.
وعندما بدا المؤتمن هينا ولينا وغير رافض لاقتطاع أجزاء من ولايته الكبيرة، ظن الأمين أن الطريقة نفسها ستحقق الهدف مع المأمون، وواصل الفضل بن الربيع تزيين الشر للأمين بخلع المأمون وقال له: يا أمير المؤمنين .. كانت البيعة لك وحدك قبلهما ودخل أخواك عبد الله والقاسم بعدك.
ولم يكن الفضل وحده في هذا الاتجاه فقد كان معه علي بن عيسي بن ماهان والسندي بن شاهك وبكر بن المعتمر.
وعلي بن عيسي من الشيعة العباسية بخراسان وقد ولاه الرشيد خراسان فأساء السيرة وظلم الرعية وشكته للرشيد الذي غضب عليه وعزله وسجنه وصادر أمواله الطائلة، فلم ينسها علي بن عيسي لأهل خراسان عندما استرد حريته وأمواله في عهد محمد الأمين وظل ابن عيسي ناقما علي الخراسانيين منتظرا الفرصة التي ينتقم فيها منهم.
أما السندي بن شاهك فكان رئيس شرطة الرشيد وكان قاسيا لا يعرف الرحمة واستمر في منصبه في عهد الأمين وكان السندي مجهول النسب فنسبوه لأمه شاهك، وكان العباسيون أحيانا يلجأون إلي هذه النوعيات الوضيعة لأنهم أشد طاعة وإخلاصا للخليفة وأقسي قلبا فينفذون الأوامر بحذافيرها مهما كانت قاسية لأن رضا الخليفة أهم عندهم من رضا الله ولا حول ولا قوة الا بالله .
أما بكر بن المعتمر فهو الرجل الذي أرسله الأمين إلي جيش أبيه قبيل وفاة الرشيد محملا برسائل لكبار قادة جيش الرشيد ورجال الدولة الموجودين في تلك الحملة.
هؤلاء الأربعة كانوا حزب الأمين الذي يشير عليه بما يراه و بما يوافق مصالحهم الشخصية بالطبع، وكان رأس هذا الحزب وزعيمه والمحرك الأساسي لكل الأحداث هو الفضل بن الربيع.
فماذا عن حزب المأمون ومن هم رجاله الذين صمدوا وأخلصوا له،حتي انتصر في تلك المواجهة الدموية ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .