تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: حبس الأمين وأمه زبيدة !

لم يشق محمد الأمين بأحد مثلما شقي بعلي بن عيسي بن ماهان واولاده، فالأب رفعه الأمين لأعلي مكانة ووفر له جيشا جرارا وأمده بكل ما يحتاجه من مال وسلاح وعتاد، ليقضي علي جيش طاهر بن الحسين الصغير، فتعامل علي مع طاهر بكل غرور وخفة واستهتار وكانت النتيجة أنه قتل وانكسر جيشه واهتزت الأرض تحت أقدام الأمين ولم تثبت منذ ذلك الحين.

وجاء الابن حسين بن علي ليكمل مشوار الأب في خذلان الأمين، وهذه المرة ليس بهزيمة جديدة أمام قائد من قواد المأمون وإنما بخلع الأمين من الخلافة وحبسه هو وأمه زبيدة، فما الذي دفع الحسين بن علي بن عيسي للإقدام علي هذه الخطوة غير المسبوقة وقتها في دولة بني العباس، فلم يجرؤ قائد منذ عهد السفاح وحتي عهد الأمين علي خلع خليفة إلا الحسين بن علي بن عيسي.

ربما شعر الحسين بأن الأمين لم يعد يصلح للخلافة بعد كل ما سفكه من دماء وما أحدثه من فوضي وخراب في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف بغدره بأخيه ونكثه لعهده، وربما ظن أن ثأره لأبيه عند الأمين لأنه هو الذي أغري أباه عليا بمحاربة طاهر، تلك الحرب التي كان ضحيتها علي بن عيسي والد الحسين.

أيا كانت الأسباب فلنعد إلي عمدة المؤرخين الإمام محمد بن جرير الطبري لنعيش معه أجواء الحرب بين الأخوين الأمين والمأمون ونعيش معه أيضا حكاية خلع الأمين، تلك الخطوة التي كانت مفاجئة ومباغتة من الحسين بن علي، خاصة أنه كان مع عبد الملك بْن صالح، فلما توفي بالرقة، نادى الحسين في الجند، فصير الرجالة في السفن والفرسان على ظهورالخيل ووصلهم، وقوى ضعفاءهم، ثم حملهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة، ثم تلقاه أهل بغداد بالتكرمة والتعظيم، واستقبله القواد والرؤساء والأشراف، ودخل منزله في أفضل كرامة وأحسن هيئة، فلما كان في جوف الليل بعث اليه الأمين يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول: والله ما أنا بمغن ولا بمسامر ولا مضحك، ولا وليت له عملا، ولا جرى له على يدي مال، فلأي شيء يريدني في هذه الساعة! انصرف، فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.

(كلام الحسين يكشف إلي أي مدي كان الأمين لاهيا عابثا وشغله الشاغل هو مجالسة المغنين والمضحكين غير مهتم بالأهوال التي تحيط به وبرجاله من كل جانب).

فانصرف الرسول، وأصبح الحسين فوافى باب الجسر، واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذى يخرج منه الى قصر عبد الله بْن علي وباب سوق يحيى، وقال: يا معشر أبناء خراسان، إن خلافة الله لا تجاور بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبر والتكبر، وإن الأمين يريد أن ينكث بيعتكم، ويفرق جمعكم، وينقل عزكم إلى غيركم، وهو صاحب «الزواقيل» بالأمس، (الزواقيل هم جند الجزيرة الذين حاربوا الخراسانيين).

وبالله إن طالت بالأمين مدة وراجعه من أمره قوة، ليرجعن وبال ذلك عليكم، فاقطعوا أثره قبل أن يقطع أثاركم، وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم، فو الله لا ينصره منكم ناصر إلا خذل، ولا يمنعه مانع إلا قتل، وما عند الله لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده والحنث بأيمانه ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا، حتى صاروا إلى سكة باب خراسان، 

وتسرعت خيول من خيول الأمين من الأعراب وغيرهم إلى الحسين بْن علي، فاقتتلوا قتالا شديدا، وأمر الحسين من كان معه من قواده وخاصة أصحابه بالنزول فنزلوا إليهم بالسيوف والرماح، وصدقوهم القتال، وكشفوهم حتى تفرقوا عن باب قصر الخلد.

فخلع الحسين بْن علي محمدا الأمين يوم الأحد 11 من رجب سنة 196 هجرية، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون، فوثب بعد هذه الوقعة العباس بْن موسى بْن عيسى بالأمين.

(العباس بن موسي هو الأمير العباسي الذي استماله الفضل بن سهل ليكون عينا للمأمون علي الأمين)،

استغل العباس هذه الوقعة ودخل علي الأمين فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر، فحبسه هناك ثم ذهب إلي زبيدة والدة الأمين فأمرها بالخروج من قصرها إلى مدينة أبي جعفر، فرفضت، فدعا لها بكرسي، وأمرها بالجلوس، ثم قنعها بالسوط وساءها، وأغلظ لها القول، فجلست، ثم أمر بها فأدخلت المدينة مع ابنها، فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بْن علي الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض.

وقام محمد بْن أبي خالد بباب الشام، فقال: أيها الناس، والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بْن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا! ما هو بأكبرنا سنا، ولا أكرمنا حسبا، ولا أعظمنا منزلة، وإن فينا من لا يرضى بالدنية، ولا يقاد بالمخادعة،

وانى أولكم نقض عهده، وأظهر التغيير عليه، والإنكار لفعله، فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي.

وقام أسد الحربي، فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه.

كما أقبل شيخ كبير على فرس، فصاح بالناس: اسكتوا، فسكتوا، فقال: أيها الناس، هل تعتدون على محمد الأمين بقطع منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قَالَ: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟

قالوا: ما علمنا، قَالَ: فهل عزل أحدا من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك! قَالَ: فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل، والحتف الجارف، انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه، وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.

ونهضت الحربية، ونهض معهم عامه أهل بغداد فقاتلوا الحسين بْن علي وأصحابه قتالا شديدا ، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأسر الحسين بْن علي، فماذا حدث له بعد أن وقع في أسر رجال الأمين؟.

نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى