كان الفضل بن الربيع فطنا لبيبا داهية ورجل دولة محنكاً، ولم لا ووالده الربيع بن يونس حاجب المنصور والمهدي، يعني الفضل تربي في بلاط الملوك.
ورغم مزاياه العديدة، إلا أنه كان يتصف بعيب خطير، وهو أنه كان عبدا لشهوة السلطة، ويبدو أنه من فرط ما ذاق حلاوتها كان يرفض أن يتجرع مرارة الحرمان منها، مهما كانت النتائج والتضحيات، ولذلك كان دائما علي أتم استعداد لأن يخوض الأهوال ويرتكب الجرائم العظام من أجل أن يبقي في السلطة بجوار ملوك بني العباس، رجلا من رجالاتهم وسيدا من سادات دولتهم.
ولأنه ورث عن أبيه الدهاء والمكر وسعة الحيلة، فقد كان قادرا علي ترك بصمته في قلوب وعقول ملوك بني العباس، فهذا أبوه الربيع يقول له أبو جعفر المنصور: ما أطيب الخلافة ياربيع لولا الموت، فيرد عليه الربيع: وهل طابت الخلافة إلا بالموت يا أمير المؤمنين، فاندهش المنصور من الرد، وقال له: كيف ذلك ؟ قال الربيع: لولا الموت لما وصلت إليك الخلافة.
ومثلما كان للربيع بن يونس مكانته الخاصة عند المنصور والمهدي، كان ابنه الفضل له أيضا مكانة خاصة عند الرشيد وابنه محمد الأمين، وعندما أوقع الرشيد بالبرامكة هذه الوقعة المزلزلة التي لم يغب عنها مكر الفضل بن الربيع ودسائسه، كان الفضل علي مشارف الخمسين وبالتحديد في التاسعة والأربعين من عمره.
فكان رجلا حنكته التجارب والأحداث الجسام التي مر بها في بلاط بني العباس .
ونعود إلي السؤال: ماذا خسر الرشيد بعد نكبة البرامكة ؟
خسر الرشيد الطرف الحكيم الذي كان يستطيع احتواء أي فتنة بين أولاده بعد موته، لأن الرشيد كما قلنا وقع في هوة سحيقة أضرت بالجميع بعد أن أسند ولاية العهد لثلاثة من أولاده علي الترتيب محمد الأمين ثم عبد الله المأمون ثم القاسم والذي لقبه بالمؤتمن .
ولم يكن الرشيد ينقصه العقل والبصر بالنتائج والأحداث فهو من أعظم ملوك بني العباس، لكن قرار التوريث الذي تداخلت فيه عوامل كثيرة بعضها عاطفي جدا بعيد عن مصلحة الدولة ومصلحة الرعية، كان يحمل في طياته عوامل الإنفجار في أي وقت إذا غابت الحكمة والعقل الرشيد.
وهنا يتبادر إلي الذهن سؤال: هل كان البرامكة في حالة بقائهم في السلطة قادرين علي كبح جماح الأمين ومنع نشوب الحرب بين الأخوين بعد موت الرشيد؟
الاجابة قد تبدو صعبة، لكننا لو تأملنا المشهد من جميع جوانبه لقلنا إنهم كانوا قادرين بالفعل علي ضبط الأمور وإحداث توازن بين الأخوين، خاصة أنهم ورثوا عن أبيهم يحيي جزءا كبيرا من حكمته وحسن سياسته وقدرته علي احتواء الأزمات، فالفضل الإبن الأكبر ليحيي بن خالد البرمكي وصفه ابن الأثير في تاريخه بأنه من محاسن الدنيا وأحد أفراد الدهر في زمنه.
كما أن البرامكة كانوا من أهم أسباب وضع المأمون في ولاية العهد بعد أن وجدوا أن الأمين يسير في ركاب أمه زبيدة وعدوهم اللدود الفضل بن الربيع .
لكن كيف سيحدثون التوازن بين الأخوين إذا كان الأمين في الحزب الآخر المناوئ لهم؟
نجيب بأن بقاء البرامكة كان يعني استمرارهم بنفس نفوذهم وقوتهم وقدرتهم علي احتواء الأزمات.
وهناك أيضا سبب مهم جدا، هو أن الأمين كان في حجر الفضل بن يحيي، والمأمون كان في حجر جعفر بن يحيي، وهذا يعني ببساطة شديدة أن أي صراع دموي بين ولدي الرشيد سيلحق ضررا كبيرا بأسرة البرامكة كلها لأنها أيضا طرف في هذا الصراع، لذا سيكون الأخوان «الفضل وجعفر» أحرص الناس علي عدم نشوب حرب بين الأمين والمأمون لأنها ستمتد إلي بيتهما أيضا، والسيف الذي سيرفعه الأمين في وجه أخيه المأمون سيرفعه أيضا في وجه جعفر بن يحيي البرمكي وهذا ما لن يقبله أبدا الفضل بن يحيي حفاظا علي أخيه وأسرته قبل أن يكون حفاظا علي الدولة واستقرارها .. هذا طبعا علي عكس موقف الفضل بن الربيع الذي تعنيه مصلحته الشخصية فقط وبقاءه في السلطة بغض النظر عن مصلحة الدولة.
ولو كان الفضل بن الربيع يمتلك من الحكمة مثلما يمتلك من الدهاء وحبك المؤامرات لحافظ علي الدولة ولما تعرض ملك بني العباس لهذه الهزة العنيفة التي كادت أن تعصف به تماما، لولا غياب الجهة القادرة علي استغلال هذا الموقف المثالي.
ولا نبالغ إذا قلنا إن العامة والبسطاء في بغداد كانوا يتوقعون الكوارث بعد موت الرشيد لأن الطرف الأقوي في المشهد هو من كان يريد إشعال الموقف بين الأمين والمأمون لا تهدئته
فكيف جاءت سنوات الرشيد الأخيرة بعد نكبة البرامكة ؟
وماذا حدث فيها قبل الصدام الدموي بين أبنائه ؟
هذا حديث الحلقة المقبلة إن شاء الله .