صلاح رشاد .. يكتب: طبول الحرب تدق بين أبناء الرشيد
لم تسفر المفاوضات والوسائل السلمية عن أي تغير يذكر في موقف عبدالله المأمون الذي كان أذكي من أن يقع في فخ أخيه محمد الأمين، فيذهب إلي بغداد ويجرد نفسه من كل مصادر قوته ليصبح في قبضة أخيه الذي لم يكن ليجد صعوبة وقتها في خلع المأمون وتولية العهد لابنه موسي.
قد يقول قائل وما الذي تغير ؟، فقد مضي محمد الأمين في خطته وخلع المأمون ومنع الخطباء في كل ولايات الدولة الإسلامية من الدعاء علي المنابر للمأمون والمؤتمن، والدعاء لابنه موسي وأسماه الناطق بالحق وجعله ولي عهده.
نرد علي هذا القول بأن الأمين سار بالفعل في خطته وخلع المأمون وأرسل أحد أتباعه إلي مكة وأتي بوثيقة ولاية العهد المحفوظة في جوف الكعبة منذ أيام أبيه الرشيد، ولم يكتف الأمين بذلك بل مزق الوثيقة وأحرقها، لكن الفارق أن المأمون ما زال حرا ومتمتعا بكل مصادر قوته في ولايته الكبيرة خراسان وما حولها حتي حدود الصين، والتي كانت تقترب من ربع الدولة الإسلامية في عهد العباسيين.
وكان المأمون محظوظا برجله الفذ الفضل بن سهل الذي كان يحل عقدة أي مشكلة، ويبطل مفعول أي خطة شيطانية يضعها الفضل بن الربيع وحاشية الأمين لاصطياد المأمون.
وأخيرا سكت الكلام وصمتت الدبلوماسية والمفاوضات السلمية، وعلا صوت السلاح والاحتكام إلي السيف.
ونكرر مجددا أن الفارق شاسع بين التاريخ لحظة حدوثه، ثم قراءته بعد ذلك وتحليل أحداثه ومواقفه، ففي تلك اللحظة المفصلية في تاريخ دولة بني العباس كان موقف الأمين هو الأقوي بكل تأكيد فهو الذي يمتلك المال والسلاح والعتاد والجيوش الجرارة لأنه الخليفة، وفي قبضته ورهن إرادته كل ولايات الدولة باستثناء خراسان وما حولها.
وكان المأمون هو الطرف الأضعف لأنه إذا كان يمتلك ولاية كبيرة فإنها مجرد رقعة ومساحة علي أطراف الدولة الواسعة.
هذه هي الحقيقة التي يجب أن نضعها في الاعتبار، والتي كان يضعها أيضا الأمين الذي لم يكن يتخيل للحظة واحدة أنه سيكون الطرف المنهزم وإلا لما أقدم علي شيء فيه ضياع ملكه بل وضياع حياته أيضا.
ماذا يعني ذلك ؟ .. يعني ببساطة شديدة أن الأمين وحاشيته كانوا يثقون في النصر وأن الأمين أجل الصدام لبعض الوقت علي أمل أن تنجح المفاوضات السلمية فينتهي الأمر دون سفك قطرة دم واحدة .. ويحقق حلمه الأكبر بإسناد ولاية العهد لابنه موسي دون منغصات أو قلاقل من أخيه المأمون.
هل يعني ذلك أن محمداً الأمين كان حريصا علي حقن الدماء ؟
لا طبعا .. ربما كان حريصا علي حقن دماء أخيه، وأهل بيته لكنه لم يكن حريصا علي حقن دماء الرعية، وكأن هناك فارقا بين دماء الرعايا ودماء الأمراء !!
لو كان الأمين حريصا علي حقن الدماء لما لجأ إلي الحرب، لأنه هو الذي بدأ بإشهار السلاح في وجه أخيه، وعلي الباغي دائما تدور الدوائر.
قلنا قبل ذلك إن الأمين كان في حجر الفضل بن يحيي وكان المأمون في حجر الابن الثاني ليحيي وهو جعفر، وقال الفضل يوما لأحد مؤدبي الأمين: أريدك أن تعظم عند الأمين حرمة الدماء ليشب علي ذلك ويتعفف عن سفكها، وكأن الفضل كان يتوقع ما سيحدث في المستقبل بين الأخوين.
وليت الدماء كانت عظيمة عند الأمين لتعفف عن سفكها ولما أريقت دماؤه في نهاية المطاف.
نعود إلي محمد الأمين الذي حسم أمره وقرر السيطرة علي خراسان ليحرم أخاه المأمون من مصدر قوته الأساسي وجهز جيشا جرارا يتراوح بين 40 الي 50 ألف جندي بقيادة علي بن عيسي بن ماهان، قال عن هذا الجيش بعض أهل بغداد إنهم لم يروا جيشا أكمل وأجهز وأوفر عدة وعتادا منه.
طبعا هذا يعني أن الأمين كان يريد الحسم السريع والخلاص من صداع أخيه المأمون إلي الأبد، لكن إسناد قيادة الجيش لعلي بن عيسي بن ماهان كان خطأ فادحا، وهذا ما أجمع عليه كل المؤرخين، دون أن ننسي أن المؤرخين يفندون القصص والمواقف والحروب بعد حدوثها وليس قبل، فما أسهل الكلام والتحليل واستعراض العضلات بعد وقوع الواقعة.
لذلك نجد التاريخ في معظم الأحيان يلوم المهزوم ويحمله المسئولية دون أن يتعمق في الأسباب والظروف والملابسات التي أجبرت المهزوم علي أن يسلك هذا الطريق أو يسير في هذا الإتجاه.
لكن لماذا كان اختيار علي بن عيسي لقيادة هذا الجيش الكبير خطأ فادحا ؟
ولماذا اختار الأمين هذا الرجل بالذات ؟، وهل جواسيس المأمون والفضل بن سهل داخل الدائرة الضيقة المقربة من الأمين كان لهم دور في هذا الاختيار ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله