تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: علي بن عيسي .. يستهين بطاهر بن الحسين

إذا أراد الله شيئا هيأ له أسبابه، وكان من أسباب نكبة الأمين من البداية حاشية السوء التي كانت تزين له الشر، والسير في طريق الغدر بأخيه وخلعه،كما أن رجاله كانوا يسيئون التدبير في اللحظات المفصلية.

وكان علي بن عيسي من هذا النوع الذي يسئ التدبير خاصة أنه كان متكبرا متعجرفا، والغريب أنه كان واثقا من النصر وكأنه ذاهب إلي نزهة وبعد أن يفرغ منها سيعود بالمأمون أسيرا فيقبل يدي أخيه الأمين، ويعتذر عما بدر منه ويتنازل طواعية عن ولاية العهد لابنه موسي الناطق بالحق.

هذا السيناريو ربما رسمه علي بن عيسي لنفسه وظن أنه سيتحقق لا محالة علي أرض الواقع.

علي الجانب الآخر، كان المأمون يعد لكل شيء عدته بقيادة رجله الفذ الفضل بن سهل الذي طلب من المأمون أن يولي قيادة الجيش طاهر بن الحسين وأقنعه أن طاهرا سينتصر ولقبه بذي اليمينين.

و قلنا قبل ذلك إن الفضل بن سهل كان منجما ماكرا، فقال لطاهر سأعقد لك لواء لن يحل علي مدار 65 سنة، وكانت هذه بالفعل مدة حكم طاهر وذريته لخراسان حتي سقطت الدولة الطاهرية بخراسان علي يد يعقوب بن الليث الصفار.

كان طاهر مقيما بالري لأنه واليها للمأمون (مدينة الري تقع حاليا جنوب العاصمة الإيرانية طهران)، وعندما علم علي بن عيسي أن طاهر بن الحسين هو قائد جيش المأمون تمادي في استهتاره وعجرفته وقال: “وما طاهر؟ فو الله ما هو إلا شوكة من أغصاني، أو شرارة من ناري، وما مثل طاهر يتولَّى على الجيوش، ويلقى الحروب.

ثم التفت إلى أصحابه فقال: والله ما بينكم وبين أن ينقصف طاهر انقصاف الشجر من الريح العاصف، إلا أن يبلغهُ عُبُورنا هَمَذَان ( مدينة إيرانية )، فإن الثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد، فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرَّض لحد السيوف وأسنة الرماح.

الاستهتار بالخصم آفة لعينة إذا أصابت جيشا تعرض للهزيمة والانكسار مهما كانت قوته وعدته وعتاده، لأن المغرور لا يأخذ بالأسباب ولا يلقي بالا للحذر والحيطة وإنما يتعامل بكل لا مبالاة حتي يقع في هوة سحيقة لا نجاة منها.

وعندما وصل جيش علي بن عيسي إلي أول بلاد الري، أتاه صاحب مقدِّمته وقال: لو كنت -أبقى الله الأمير- أذكَيْت العيون، وبعثت الطلائع، وارتدت موضعًا تعسكر فيه، وتتخذ خندقًا لأصحابك يأمنون به، كان ذلك أبلغ في الرأي، وآنس للجند.
كلام حكيم من رجل مجرب له خبرة بالحروب.
فماذا كان رد المتكبر المغرور علي بن عيسي ؟ .. قال: لا، ليس مثل طاهر يُسْتَعَدُّ له بالمكايد والتحفظ، وإن حال طاهر تئول إلى أحد أمرين، إما أن يتحصَّن بمدينة الري، فيخرج عليه أهلها، فيكفونا مَئُونته، أو يخلِّيها ويدبر راجعًا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه.

لم يستمع علي إلي هذه النصيحة الذهبية من صاحب مقدمته وجاءته نصيحة ذهبية أخري كان الأولي ان يعمل بها خاصة أنها جاءت من ابنه يحيي وكان رفيقه في الجيش وأمره الأمين أن يولي إبنه يحيي علي الري عندما يفرغ من طاهر (يعني الأمين وقائد جيشه كانا يظنان أنها نزهة وليست معركة حربية).

ونصح الابن يحيي أباه عليا قائلا: اجمع متفرِّق العسكر، واحذر على جندك البيات، ولا تسرِّح الخيل إلا ومعها كَثْفُ من القوم، فإن العساكر لا تُسَاس بالتواني،و الحروب لا تدبَّر بالاغترار، والثقة أن تحترز، ولا تقل: المحارب لي طاهر، فالشرارة الخفيَّة ربما صارت ضِرَامًا، ومن تهاون باليسير من السيل ربما صار بحرًا عظيمًا، وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا.

نصيحة ذهبية من ابن لأبيه، لكن الكبرياء لم يفارق علي بن عيسي لحظة واحدة وقال لابنه: اسكت، فإن طاهرًا، ليس في هذا الموضع الذي ترى، وإنما يتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعدّ إذا كان المناوئ لها أكفاءَها ونظراءها.

الثقة الزائدة كانت عنوان تعامل علي بن عيسي مع هذه المواجهة الحربية قبل أن تبدأ، فماذا عن موقف طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون ؟

جيش طاهر كان صغيرا وبعض المؤرخين قالوا إن هذا الجيش لم يتجاوز 4 آلاف وربما يكون ذلك من مبالغات المؤرخين الذين ينسبون أحيانا للمنتصرين أمورا خارقة، لمجرد أنهم حققوا النصر علي عدوهم الأقوي والأكبر عددا.

لا يعني ذلك أنه كان هناك تقارب بين الجيشين، لكن الأرجح أن جيش طاهر لم يكن صغيرا الي هذا الحد فربما كان في حدود 10 آلاف وليس أربعة، لكن مما لاشك فيه أن الضغوط علي جيش طاهر كانت أقوي وأكبر لأنه الأصغر عددا، كما أن هزيمته كانت ستفتح طريق علي بن عيسي إلي مرو معقل المأمون وربما أسره مثلما كان يتخيل هو وخليفته الأمين وأيضا أمه زبيدة.

فكيف تعامل طاهر بن الحسين مع هذا الموقف العصيب والمواجهة الحاسمة في تاريخه وتاريخ سيده عبد الله المأمون ؟

نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى