صلاح رشاد يكتب: عندما أحاط الخطر .. بدولة المأمون
كان المأمون شبه المستسلم للفضل بن سهل، ربما لاقتناعه بذكائه وبعد نظره وحسن سياسته، فخطط الفضل هي التي مكنت المأمون من النصر علي أخيه الأمين واعتلاء سدة الخلافة .
إضافة إلي أن الفضل كان يحجب عن المأمون أي أخبار تثير شكه أو قلقه، فكان المصدر الأول للأخبار، كما كان يمنع دخول أي قائد أو رجل مؤثر يستطيع أن يوضح للمأمون أمورا خافية عنه، فقد كان المأمون في تلك المرحلة لا يري إلا بعين الفضل ولا يسمع إلا بأذنه ولايتحدث إلا بلسانه ولا يتحرك إلا بعقل الفضل وتدبيره، وكان في ذلك خطورة كبيرة علي دولة المأمون الذي أدرك ذلك بالفعل لكن بعد فترة طويلة شهدت قلاقل وفتناً وحروبا وعدم استقرار استمر ما يقرب من 6 سنوات .
خرج العلويون واعتبروها فرصة ذهبية لاعتلاء السلطة التي خاصمتهم طويلا، لكنه كان خروجا عشوائيا بدون خطة محكمة وقيادة واحدة، وإنما كان خروجا فرضته حالة السيولة الموجودة في الولايات في ظل ضعف الحكومة المركزية التي كانت علي وشك الانهيار، بعد الحرب الطاحنة بين الأمين والمأمون.
وكان المأمون شيعيا مفرطا في حب أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه، ويراه أفضل الناس بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم، مخالفا في ذلك علماء السنة الذين وضعوا عليا حيث وضعته الخلافة الراشدة في المرتبة الرابعة بعد أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
وكان للمأمون علم بالفقه والفرائض والطب والشعر والنحو وعلم النجوم وهو من الخلفاء القلائل الذين كانوا يحفظون القرآن الكريم كاملا، لكن المأمون تعرض لنقمة المؤرخين وعلماء السنة لسببين، تفضيله عليا علي عثمان رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين، والمحنة التي وضع فيها الأمة وزلزلتها لسنوات طوال وهي القول بخلق القرآن، وهذه المحنة سنستفيض في الحديث عنها في وقتها.
وقال الامام ابن كثير: من فضل عليا علي عثمان فقد أزري بالمهاجرين والأنصار الذين اجتهدوا في الاختيار بينهما ثلاثة أيام بعد مقتل عمر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، ثم اختاروا عثمان.
ومعني كلام ابن كثير أن من يفضل عليا علي عثمان فإنه يضرب عرض الحائط باجتهاد المهاجرين والأنصار، وهذا سوء أدب مع صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وتجاوز في حق الخليفة الثالث عثمان ذي النورين رضي الله عنه.
وسنستفيض في الحديث عن كل ذلك عندما يحين الكلام عن فتنة خلق القرآن.
نعود الي الأوضاع المشتعلة في دولة الخلافة العباسية بعد مقتل الأمين بسبب بقاء المأمون في خراسان، ما أتاح الفرصة للفتن والثورات لكي تطل برأسها، فظهر بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كما جاء في تاريخ ابن كثير، وكان يدعو إلى الرضا من آل محمد، والعمل بالكتاب والسنة، و يقال له : ابن طباطبا (وسبب هذه التسمية أنه كانت عنده لثغة في لسانه فكان ينطق القاف طاء لذلك سمي ابن طباطبا).
وكان القائم بأمره وتدبير الحرب بين يديه أبو السرايا واسمه السري بن منصور الشيباني وهو قائد مغامر ممن يبحثون عن الشهرة والوجاهة والمنصب والسلطان في الدنيا، وقد التف حوله أهل الكوفة، ووفدت إليه الأعراب من ضواحي الكوفة وكان النائب عليها من جهة الحسن بن سهل سليمان بن جعفر حفيد المنصور، فبعث الحسن بن سهل إلى سليمان يلومه ويؤنبه على ذلك، ( قلنا قبل ذلك إن المامون بمشورة الفضل بن سهل بالطبع ولي الحسن بن سهل العراق وكل الولايات التي سيطر عليها طاهر بن الحسين بسيفه).
نعود الي الحسن بن سهل الذي أرسل جيشا من 10 آلاف فارس بقيادة زهير بن المسيب لمواجهة أبي السرايا، فتقاتلوا خارج الكوفة فهزم أبو السرايا زهيرا واستباح جيشه ونهب جند ابي السرايا ما كان مع زهير، فلما كان الغد من الوقعة توفي ابن طباطبا أمير الشيعة فجأة.
روايات كثيرة رجحت أن أبا السرايا سمه عندما وجده رافضا لسياسته مع الأسري وتوزيع الغنائم، وأقام أبو السرايا مكانه غلاما صغيرا يقال له: محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عن آل البيت أجمعين، ليكون مجرد صورة أو واجهة فقط ،أما الأمر والنهي فلأبي السرايا.
لم يفقد الحسن بن سهل الأمل في القضاء علي أبي السرايا فأرسل لزهير مددا قوامه 4 آلاف فارس مع عبدوس بن محمد، فهزمهم أبو السرايا أيضا ولم يفلت من أصحاب عبدوس أحد، وانتشر الطالبيون في تلك البلاد وضرب أبو السرايا الدراهم والدنانير في الكوفة ونقش عليها “إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص “ الصف : الآية 4 ، ثم بعث أبو السرايا جيوشه إلى البصرة وواسط والمدائن، فهزموا من فيها ودخلوها قهرا ، وقويت شوكتهم فاغتم لذلك الحسن بن سهل وكتب إلى هرثمة بن أعين يستدعيه لحرب أبي السرايا، فتمنع، وقال: لايتذكروننا إلا عند الشدائد .
وكان أبو السرايا من رجال هرثمة وعندما وجد تجاهلا من قائده تمرد عليه بحثا عن فرصة أحسن مع رجل آخر وسياسة أخري، خاصة أن عقد الدولة العباسية كان قد انفرط لسنوات بسبب الحرب بين الأمين والمأمون.
وكان هرثمة أيضا في قائمة المغضوب عليهم من جانب الفضل بن سهل، ويبدو أن شهوة السلطة أصابت الفضل بالسعار والجنون فبدأ يصفي حساباته مع أقرب رجال المأمون والذين كانوا من أهم أسباب النصر علي الأمين والقضاء عليه .. برغم أنه من المفترض أنهم كانوا حزبا واحدا وجبهة واحدة، لكن الطموح الجامح لابن سهل جعله لا يري إلا نفسه، ومن ينافسه أو يحاول الاقتراب من المأمون سيكون في مرمي غضبه وانتقامه .
وعندما ألح الحسن بن سهل علي هرثمة خاصة بعد هزيمة قائديه زهير بن المسيب وعبدوس لم يجد هرثمة مفرا من الاستجابة حتي لا يقع في مرمي غضب المأمون .
وكان هرثمة من أكثر القادة إخلاصا للرشيد وأبنائه، وقد رأينا كيف كان يعامل الأمين بإجلال وإكبار، وحاول قدر استطاعته أن ينقذه من قبضة طاهر بن الحسين لكنه لم ينجح، لأن طاهرا كان القائد الأعلي مكانة والأكثر قوة وسيطرة .
فماذا فعل هرثمة مع أبي السرايا ؟
وكيف جاءت مواجهة صديق الأمس وعدو اليوم ؟
نجيب في الحلقة المقبلة المقبلة إن شاء الله