تحقيقات وتقارير

صلاح رشاد .. يكتب: مأساة زبيدة !!

أحكم طاهر بن الحسين قبضته علي بغداد بعد أن قتل الأمين، وأعطي الأمان للأبيض والأسود، وهدأ الناس، وكان فصيحا بليغا مفوها فصلى بالناس يوم الجمعة بعد مقتل الأمين وحضر وجوه القواد وأمراء البيت العباسي، وخطبهم خطبة بليغة، كان مما جاء فيها كما قال الإمام محمد بن جرير الطبري:

الحمد لله مالك الملك، يؤتيه من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، إن ظهور غلبتنا لم يكن من أيدينا ولا كيدنا، بل اختار الله للخلافة إذ جعلها عمادا لدينه، وقواما لعباده، وضبط الأطراف وسد الثغور، وإعداد العدة، وجمع الفيء، وإنفاذ الحكم، ونشر العدل، وإحياء السنة، وقد رأيتم من وفاء موعود الله عز وجل لمن بغى عليه، وما أحل به من بأسه ونقمته، لما نكب عن عهده، وارتكب معصيته، وخالف أمره، فتمسكوا بوثائق عصم الطاعة، واسلكوا مناحي سبيل الجماعة، واحذروا مصارع أهل الخلاف.

استقرت الأمور لطاهر، لكن زبيدة زوجة الرشيد كان قلبها يشتعل غضبا وغيظا علي ذلك الرجل الذي قتل ابنها الوحيد وفلذة كبدها شر قتلة، وأخرجها من قصرها ذليلة مهانة، وهي أميرة أميرات البيت العباسي وحبيبة قلب الرشيد، وقبل كل ذلك كانت مفرطة في أعمال الخير متدينة عفيفة وكانت لها مائة جارية تحفظن القرآن، لكل واحدة منهن ورد يومي فكان القرآن لا ينقطع عن قصرها .

والإسم الحقيقي لزبيدة هو أم جعفر وهي ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور واسماها جدها المنصور «زبيدة» لبياض وجهها ونضارتها .

وكان الشاعر العباسي أبو العيناء يقول: لو نشرت زبيدة ضفائرها لما تعلقت إلا بخليفة أو ولي عهد، فجدها أبو جعفر المنصور وأخو جدها أبو العباس السفاح، وعمها المهدي وزوجها الرشيد وابنها الأمين وابنا زوجها المأمون والمعتصم، وابنا إبن زوجها الواثق والمتوكل.

ويشبهها في البيت الأموي عاتكة بنت يزيد بن معاوية فهي أيضا محاصرة بالخلفاء من كل جانب، فجدها معاوية رضي الله عنه وأبوها يزيد، وأخوها معاوية بن يزيد ، وزوجها عبد الملك بن مروان ، وحموها مروان ، وابنها يزيد بن عبد الملك، وأبناء زوجها ثلاثة من الخلفاء هم: الوليد وسليمان وهشام، وحفيدها خليفة هو الوليد بن يزيد .

نعود الي زبيدة أم الأمين التي كانت صدمتها مؤلمة مفجعة، فقد قتل ابنها الوحيد شر قتلة، وقطع طاهر رأسه وعلقه في شوارع بغداد ليراه العامة، هذا الذي كان خليفتهم بالأمس أصبح جثة مقطوعة الرأس !! ثم أرسل الرأس بعد ذلك إلي المأمون في خراسان .

(وكم فيك يا دنيا من المواعظ والعبر لكن القليل جدا هو من يتعظ ويعتبر ).

أدمت هذه النهاية المأساوية قلب الأم التي حلمت بابنها خليفة وملكا فكان في حلمها هلاكه وضياع عمره وشبابه.

هل عضت زبيدة أصابع الندم علي أنها كانت من أهم أسباب ولاية العهد للأمين قبل المأمون ؟

هل أحست أنها أجرمت في حق ابنها الوحيد عندما ضغطت بكل نفوذها ودلالها علي الرشيد، ليجعل الأمين ولي عهده الأول ؟

هل تذكرت محاولات الرشيد معها وقوله لها: إتق الله، فإنها أمة محمد التي سيحاسبني الله عليها، فإبنك لايصلح لها وإبني أحق من إبنك فتقول له إنك تفضل ابنك علي إبني فيقول لها: نعم لأنه أحق وأجدر، لكن في النهاية رضخ الملك المهيب هارون الرشيد لضغوط ودلال زبيدة التي كانت فرحتها عارمة، ولم تدر المسكينة أن هذه الفرحة ستتحول يوما ما إلي حزن دائم، وألم يسكن أعماق الفؤاد لايغادره، فقد عاشت زبيدة بعد مقتل ابنها 18 سنة وهي مدة زمنية طويلة جدا لقلب مكلوم ونفس حزينة وروح كسيرة عليلة.

وسواء كان محمد الأمين ضحية أمه زبيدة أو أبيه الرشيد أو حتي أخيه المأمون، فإن المحصلة أن الأمين هو وحده الذي دفع الثمن باهظا من حياته وشبابه، أما حلم زبيدة فقد أورد ابنها موارد التهلكة وصدر لها الحزن حتي الممات.

وكانت زبيدة تري أن ثأرها عند طاهر بن الحسين وليس المأمون ربما لأن إدراك الثأر من طاهر أهون وأيسر من إدراكه من الخليفة الجديد وريث أبيه الرشيد في ذكائه وقدرته علي احتواء الأزمات وامتصاص الصدمات.

استدعت زبيدة الشاعر خزيمة بن الحسن لينظم قصيدة في رثاء ابنها وتحريض المأمون علي طاهر بن الحسين ولسان حالها، يقول : ذلك الأعور الذي قتل إبن الملوك وأهان بنات الملوك.

يقول الشاعر في القصيدة مخاطبا المأمون علي لسان زبيدة:

لخير إمام قام من خير عنصر

وأفضل سام فوق أعواد منبر

لوارث علم الأولين وفهمهم

وللملك المأمون من أم جعفر

كتبت وعيني مستهل دموعها

إليك ابن عمي من جفوني ومحجري

وقد مسني ضر وذل كآبة

وارق عيني يا بن عمي تفكري

أتى طاهر لا طهر الله طاهرا ..

فما طاهر فيما أتى بمطهر

فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا

وأنهب أموالي وأحرق أدوري

يعز على هارون ما قد لقيته

وما مر بي من ناقص الخلق أعور

فإن كان ما أسدى بأمر أمرته

صبرت لأمر من قدير مقدر

تذكر أمير المؤمنين قرابتي

فديتك من ذي حرمة متذكر

فلما قرأها المأمون بكى، وقال: أنا الطالب بثأر أخي قتل الله قتلته.

ولما رجع المأمون الي بغداد بعد ذلك، سامحته زبيدة وهنأته بالخلافة قائلة: أهنيكَ بخلافة قد هنأتُ نفسي بها عنكَ، قبل أن أراكَ، ولئن كنتُ قد فقدتُ ابنًا خليفةً؛ لقد عُوّضْتُ ابنًا خليفة لم ألدْه، وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل الله أجرًا على ما أخذ، وإمتاعًا بما عوض.

فقال المأمون: ما تلد النساء مثل هذه. وماذا أبقت بعد هذا الكلام لبلغاء الرجال.

وأنزل المأمون زبيدة أسمي المنازل وجعل لها مكانا في قصر الخلافة، وأقام لها الوظائف والخدم والجواري، وكان يمنحها كل عام 100 ألف دينار ومليون درهم.

وظلت في مكانتها الرفيعة حتي ماتت عام 216 هجريا قبل موت المأمون بعامين.

وظل غضب المأمون من قائده الظافر طاهر بن الحسين كامنا في صدره ينتظر اللحظة المناسبة للانتقام لكن شخصية المأمون كانت تفضل في معظم المواقف العفو علي الانتقام.

ونترك المأمون وطاهر قليلا، ونعود الي مهندس إقامة دولة المأمون وهو الفضل بن سهل، ذلك الرجل الداهية القابع في خراسان لنري ماذا فعل بعد أن كسب الرهان وأصبح المأمون أميرا للمؤمنين وخليفة للمسلمين.

وهذا حديث الحلقة المقبلة إن شاء الله .

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى