صلاح رشاد .. يكتب: مفاجأة .. ترفع معنويات «الأمين»
ضاق الخناق علي محمد الأمين .. لكنه ما زال يمتلك بعض الجيوش وبعض القادة وبعض المال الذي يعينه علي التمسك بالأمل الضعيف.
جهز الأمين أربعمائة لواء تحت رئاسة قواد شتي، وجعل القيادة العامة لعلي بْن محمد بْن عيسى بْن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بْن أعين، قائد الجيش الثاني الذي أرسله المأمون ليكون عونا وسندا لطاهر بن الحسين، وليعمل الاثنان كفكي كماشة يضيقان الخناق علي الأمين حتي أسره أو قتله.
سارت ألوية الأمين بقيادة علي بن عيسي بن نهيك حتي التقت بهرثمة قرب النهروان (مدينة تقع جنوب شرق بغداد )، فهزمهم هرثمة، وأسر قائدهم علي بْن عيسى بْن نهيك، وبعث به إلى المأمون، وزحف هرثمة فنزل النهروان.
ورغم الانتصارات الكبيرة التي حققها طاهر وأسهمه التي تعلو كل يوم إلا أن هناك مفاجأة هزت موقفه، عندما ضاق بعض جنود طاهر من إمساكه في إنفاق الأموال عليهم، في حين أن الأمين كان يعطي جنوده ورجاله بسخاء، ففر من جيشه 5 آلاف وتوجهوا إلي الأمين الذي سر بهم سرورا كبيرا وأغدق عليهم المال وطيبهم بأفخر أنواع الطيب وهو «الغالية» لذلك سموا جنود وقواد الغالية.
وارتفعت معنويات الأمين وقرر أن يحارب طاهر بنفس سلاحه فنشر الجواسيس في جيشه، ودس إلى رؤساء الجند الكتب بالأطماع والترغيب، فشغبوا على طاهر، واستأمن كثير منهم إلى الأمين، ومع كل عشرة رجال منهم طبل، فارعدوا وأبرقوا واجلبوا، واقتربوا ومعهم جماعة كبيرة من أهل بغداد وجند الأمين حتي أشرفوا على نهر صرصر (نهر متشعب من نهر الفرات وبينه وبين بغداد 9 أميال)، فعبأ طاهر أصحابه كتائب، وكان يمر على كل كتيبة منهم، فيقول: لا يغرنكم كثرة من ترون، ولا يمنعكم استئمان من استأمن منهم، فإن النصر مع الصدق والثبات، والفتح مع الصبر، ورب فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابرِينَ ثم أمرهم بالتقدم، فتقدموا ودارت معركة حامية، ثم إن الله ضرب أكتاف أهل بغداد فولوا منهزمين، وأخلوا موضع عسكرهم، فانتهب أصحاب طاهر كل ما كان فيه من سلاح ومال.
(هذه الواقعة تثبت لنا أن أي هزة أو خلل مع قائد بارع لا تصيبه في مقتل ولا تدفعه إلي الإنكسار، لأن القادة البارعين هم الذين يكتبون التاريخ دائما، خاصة أنهم يتماسكون لحظة الانكسار وينجحون في تحويلها الي انتصار).
استعاد طاهر زمام الموقف من جديد وبلغ الخبر الأمين، فأخرج خزائنه وذخائره، وفرق الصلات وجمع أهل الأرباض ( ضواحي مدينة بغداد )، وكان _كما جاء في تاريخ الطبري_ لا يرى أحدا وسيما حسن الرواء إلا خلع عليه وغلف لحيته بالغالية، وفرق في قواده المحدثين من عامة أهل بغداد لكل رجل منهم 500 درهم وقارورة غالية، ولم يعط جند القواد وأصحابهم شيئا، فعلم عيون طاهر وجواسيسه بما حدث، فراسلهم طاهر وكاتبهم، ووعدهم واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم، فشغبوا على الأمين لينقلب السحر علي الساحر ويرتد الموقف علي الأمين الذي أصبح في ورطة شديدة بعد أن اشتري عامة بغداد وباع الجند المحترفين غضبا منهم أو نقمة عليهم.
وهكذا بين الحين والآخر يثبت لنا الأمين أنه رجل أرعن يجيد الخسارة ولا يجيد المكسب علي الإطلاق .. وأنه بتصرفاته كان يسارع بالقضاء علي ملكه وسلطانه.
ولما شغب الجند، وصعب الأمر على الأمين، شاور قواده، فقيل له: تدارك القوم، فتلاف أمرك، فإن بهم قوام ملكك، وهم بعد الله أزالوه عنك أيام الحسين بن علي الذي خلعك، وهم ردوه عليك، وهم من قد عرفت نجدتهم وبأسهم.
فلم يستمع لنصح قادته وأمر بقتالهم، بالأجناد الذين كانوا معه، واستغل طاهر ذلك الموقف أحسن استغلال وراسل طاهر هؤلاء الجند وقادتهم، وأخذ رهائنهم على بذل الطاعة له، وكتب إليهم، فأعطاهم الأمان، وبذل لهم الأموال، ثم قدم فصار إلى البستان الذي على باب الأنبار (مدينة غرب العراق).
فنزل البستان بقواده وأجناده وأصحابه، ونزل من لحق بطاهر من قواد محمد وجنده في البستان أيضا، ورفع أرزاقهم إلي 80 درهما شهريا، وأجرى عليهم وعلى كثير من رجالهم الأموال.
قرارات الأمين الكارثية أحدثت فراغا أمنيا كبيرا في العراق جعلت المساجين ينقبون السجون ويخرجون منها، وبدأت محنة رهيبة لأهل العراق وصفها الطبري قائلا: فتن الناس، ووثب اللصوص والفجرة على أهل الصلاح، فعز الفاجر، وذل المؤمن، واختل الصالح، وساءت حال الناس.
ودفع الناس ثمنا فادحا من ضمن الأثمان الباهظة التي دفعوها بسبب الحرب بين الأمين والمأمون.
فخروج العيارين والشطار (اللصوص ) كان وبالا علي الجميع حاكمين ومحكومون لأن ولاءهم لأنفسهم وليسوا أصحاب رسالة بل أقرب إلي البلطجية في زمننا الحالي.
(الشُطَّار طائفة من أهل الدعارة والنهب واللصوصية كانوا يمتازون بملابس خاصة بهم وكانوا لا يعتبرون اللصوصية جريمة وإنما يعدونها صناعة ويحللونها باعتبار أن ما يستولون عليه من أموال التجار الأغنياء زكاة تلك الأموال التي أُوصي بإعطائها للفقراء.
وقد أفرد محمد سعيد رضا بحثا وافيا عن هذه الفئة منذ ظهورها .
فقال: اقترن ظهور العيارين والشطار لأول مرة في التاريخ بفتنة الأمين والمأمون، وذلك حين تجمعوا في تنظيم شبه عسكري، لكل عشرة منهم عريف، ولكل عشرة عرفاء نقيب ولكل عشرة نقباء قائد ولكل عشرة قواد أمير. للدفاع عن مدينة بغداد ضد الجيش الخراساني بقيادة طاهر بن الحسين.
لكنهم سرعان ما تحولوا إلى عصابات تسلطت على بغداد طيلة أيام الحرب التي دامت 14 شهرا قاموا خلالها ببعض التعديات وجابوا الأسواق، وأباح لهم رؤساؤهم النهب و السلب علانية.
وقد عانت جيوش المأمون من حركة العيارين وتنظيمهم شبه العسكري ونجحوا خلال بعض المعارك في إلحاق الهزيمة بجيش طاهر بن الحسين الذي لم يذق طعم الهزيمة أمام جيوش الأمين المحترفة والتي كان يقودها قادة مهرة لهم صولات وجولات في الحروب.
وعانت بغداد الأمرين في ذلك الوقت وكانت ضحية قرارات الأمين الكارثية وجيوش المأمون التي تحاصرها والعيارين والشطار الذي روعوا الآمنين وأحالوا حياة أهل بغداد إلي جحيم.
وذلك حديث الحلقة المقبلة إن شاء الله.