تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: وفد الأمين يضيّق الخناق علي المأمون

أحسن عبد الله المأمون استقبال سفراء أخيه محمد الأمين الذين كانوا قد حملوا معهم هدايا وأموالا ربما لكسب ثقة المأمون سريعا وليثبتوا حسن نية الأمين تجاه أخيه، ولننظر إلى ما يرويه لنا عمدة المؤرخين والمفسرين محمد بن جرير الطبري عن أعضاء هذا الوفد، فإنه يقول بعد أن اختصرنا بعضه منعا للإطالة:

لما وصلوا إلى عبد الله أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب الأمين وما كان بعَث به معهم من الأموال والألطاف، ثم تكلم العباس بن موسى بن عيسى فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الأمير إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلًا عظيمًا، ومن النظر في أمور الناس عبئًا جليلًا، وقد صدقت نيتُه في الخير، فأعوزه الوزراء والأعوان، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وقد فزع إليك في أموره، وفي قُدومك عليه أنس عظيم وصلاح لدولته وسلطانه، فأجب أيها الأمير دعوة أخيك، وأعِنْه على ما استعانك عليه في أمره، فإن في ذلك قضاء الحق، وصلة الرحم، وصلاح الدولة، وعز الخلافة.
عزم الله للأمير على الرشد في أموره، وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه.

وتكلم عيسى بن جعفر بن أبي جعفر خال الأمين، فقال: إن الأمير أولى من برَّ أخاه وأطاع إمامه؛ فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته، فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه ضرر ومكروه على المسلمين.

وتكلم محمد بن عيسى بن نهيك فقال: أيها الأمير، إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق أمير المؤمنين، ولا نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية بأمور المسلمين.
وقد أعوز أمير المؤمنين الكُفَاة والنصحاء بحضرته، فإن تُجِب أميرَ المؤمنين فيما دعاك إليه فنعمة عظيمة، وإن تقعد يُغْن الله أمير المؤمنين عنك، ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البرِّ بك، والاعتماد على طاعتك ونصيحتك.

وتكلم صالح صاحب المُصلَّى فقال: أيها الأمير، إن الخلافة ثقيلة، والأعوان قليل، ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين ، وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه؛ إذ أنت ولي عهده ،وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أموره، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة.وفَّق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له.

ثم عاود العباس بن موسي الكلام وقال: إن جدي عيسي بن موسي تنازل عن ولاية العهد للمهدي فلم يضره شيئا، وهنا كان جواب الفضل بن سهل حاضرا: إسكت إن جدك كان أسيرا عندهم، لكن المأمون وسط أخواله وأنصاره.

وإجابة الفضل تكشف لنا عن سر قوة المأمون أن له ظهرا وسندا، علي النقيض من أخيه المؤتمن الذي استسلم بسهولة للخلع رغم أنه كان يمتلك ولاية كبيرة تضم الجزيرة والشام والعواصم والثغور، لكنه كان يفتقد الظهر والسند.

وكان الفضل قد جلس مع الوفد أكثر من مرة ولفت نظره العباس بن موسى، فيقول الفضل كما جاء في كتاب عصر المأمون لأحمد فريد رفاعي: أعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بن موسى، فخلوتُ به فقلتُ: يذهب عليك بعقلك وسنِّك أن تأخذ بحظك من الإمام أي المأمون فقال له العباس: قد سميتموه بالإمام! فأجابه الفضل: قد يكون إمام المسجد والقبيلة! فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك، ثم وصل إلى أن قال للعباس: لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، يقصد أن يكون أميرا علي الحج ولك من مواضع الأعمال بمصر ما شئت.

ونجح الفضل بدهائه وكياسته في استمالة أمير مهم من البيت العباسي هو العباس بن موسي الذي أصبح عينا للفضل بن سهل عند الأمين وكان هذا مكسباً كبيراً جدا للمأمون الذي أصبح علي دراية بما يدبره له الفضل بن الربيع ومجموعته.

وقد رد المأمون علي سفراء أخيه الأمين ردا فيه فطنة وحسن سياسة فقال لهم: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين، أكرمه الله، ما لا أُنكره، ودعوتموني من الموالاة والمعونة إلى ما أُوثره ولا أدفعه، وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سرَّه ووافقه حريص، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبطًا ومدافعة، ولا أتقدم عليه اعتسافًا وعجلة وأنا في ثغرٍ من ثغور المسلمين كَلِبٍ عدوُّه ،شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وإن أقمت عليه لم آمن فوت ما أُحبُّ من معونة أمير المؤمنين ومؤازرته وإيثار طاعته؛ فانْصَرِفوا حتى أنظر في أمري، وما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله، ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم والإحسان إليهم.

و ذكر أحد المعاصرين للأحداث وهو سفيان بن محمد، أن المأمون لما قرأ كتاب الأمين أسُقِط في يده، وتعاظم ما ورد عليه منه، ولم يَدرِ ما يردُّ عليه، فدعا الفضل بن سهل فأقرأه الكتاب وقال: ما عندك في هذا الأمر؟
فبماذا أجاب الفضل بن سهل ؟
وهل نجح في إعادة الثقة والطمأنينة إلي قلب المأمون ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى