نبيل فكري .. يكتب: التراث الذي يؤرقكم الآن .. كيف كنَّا يومَ «كان» ؟
ما كنت أود التمادي في الكتابة عن «تكوين»، ذلك المركز المشبوه رؤية وشخوصاً، لكنني أرى أن واقع مهنتي، يفرض عليّ أن أمارسها كما يجب في أمر كهذا، وتلك نقطة مهمة تصلح بداية مثالية لفكرة اليوم.
يعرف المقربون مني والبعيدون ربما، إيماني الشديد بالتخصص، ويقيني بأننا ابتُلينا بما ابتلينا به في مناحي حياتية كثيرة، بعدما فتحنا الأبواب والنوافذ أمام كل «من هب ودب» ليتحدث فيما يعرف وما لا يعرف، حتى وصل بنا الحال إلى أننا نُفاجأ من حين لآخر، بالقبض على من يمارسون الطب دون الحصول على مؤهل لذلك، وبعضهم أجرى عمليات جراحية، لا أدري كيف.
المهندس عليه أن يمارس رأيه في الهندسة، والطبيب في الطب والمعلم في التدريس والجيولوجي في الجيولوجيا والمدرب في الكرة والفنان في الفن، ودارس الفلسفة في الفلسفة، ورجل اللغة في اللغة، ورجل الدين في الدين .. رجل الدين المؤهل حفظا وأسانيد، وليس أولئك الذين استباحوا الدين وقفزوا من فوق أسواره دون وازع.
سبعة أشخاص يمثلون ركيزة «تكوين»، أولهم إبراهيم عيسى، الحاصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة القاهرة، والذي التحق بالعمل في «روزا ليوسف» منذ أن كان طالباً في السنة الأولى بالإعلام، وما أدراكم ما «روزا ليوسف» في تلك الأيام، فكراً ونهجاً وإثارة وصحافة ملتهبة ساخنة.
ثانيهم: إسلام بحيري الحاصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة وظني أنه لم يمارس المحاماة، ويقول في سيرته الذاتية إنه حاصل على ماجستير «طرائق التعامل مع التراث» من جامعة ويلز بالمملكة المتحدة .. بريطانيا هي التي علمته كيف يتعامل مع تراثنا، لا تراثهم.
الثالث هو الروائي والكاتب يوسف زيدان، وهو خريج كلية الآداب جامعة الإسكندرية، قسم الفلسفة، وحصل على الماجستير والدكتوراه في الفلسفة الإسلامية.
الرابعة، فاطمة ناعوت، عضو نقابة المهندسين المصرية، خريجة كلية الهندسة جامعة عين شمس، والكاتبة والشاعرة والمترجمة.
خامستهم: التونسية ألفة يوسف، وهي أكاديمية تونسية متخصصة في اللغة العربية واللغات، والسادسة اللبنانية نايلة أبو نادر، وكانت متخصصة في مجال البيئة وناشطة في الحركة الثقافية، قبل أن تعمل على مقاربة الإشكاليات المعاصرة.
أما سابعهم، فهو السوري فراس السواح، والذي تخرج من كلية الاقتصاد وعمل في جامعة بكين للدراسات الأجنبية منذ تخرجه أستاذاً لتدريس الحضارة العربية وتاريخ الشرق الأدنى.
سبعة لا رابط بينهم، ولا هوية تجمعهم، سوى أنهم جميعاً تمردوا ودارت معركة بينهم وبين التراث، كانت خاصة بكل منهم في مرحلة ما، قبل أن يقرروا «مدعومين» أو غير مدعومين، أن يوحدوا قواهم في مناهضة التراث والثوابت.
كنت على يقين دوماً من أن من يستطيع أن يتحدث جيداً بإمكانه أن يربح، وأن كيفية الكلام قد تحدد بنسبة ما درجة قبولك لدى الآخر .. بمعنى من الممكن الآن، أن نتحدث عن «تكوين» ذلك المركز الذي جاء ليرد الرسالة الإلهية إلى عالميتها وإنسانيتها ورحمتها المهداة، وإزالة ذلك اللباس العربي المحلي غير الإنساني الذي ألبسوه لرسالة الله العالمية، وفصل كل ما أضافوه على الرحمة المهداة .. الله .. «شفت الكلام حلو ازاي»، وبالمناسبة هذا ما أرسله إليَّ أحد الأصدقاء دفاعاً عن «تكوين»، وزاد على ذلك بأن أرسل لي قائمة من ضحايا جمود الفكر وتيبس المنطق والتكفير عبر التاريخ الإسلامي، واستدعوا من التاريخ ومن قصاصات الصحف، تلك القصص لمن قتلوا فرج فودة وطعنوا نجيب محفوظ وفرقوا بين نصر حامد أبو زيد وزوجته.
كثير من الأهداف المفخخة الفضفاضة، أعلن «تكوين» أنه سيعمل عليها، لا تدري كيف سيحققها منتسبو «تكوين»، وهم بحاجة ماسة إلى أن يتعلموا أصول الدين قبل أن يتحدثوا في الدين، ويُعلموا الناس الدين.
لقد وصل المسلمون في ظل التراث الذي يؤرق «التكوينيين» اليوم، إلى أقصى من خيالاتنا، فامتدت الفتوحات من غربي الصين إلى جنوب فرنسا، ومن شمال إفريقيا إلى إسبانيا وفي وسط آسيا وفيما وراء نهري جيجون وسيحون .. كانت دولة بسطت سلطانها على العالم، في قرابة مائة عام أو يزيد، في ظل هذا التراث الذي يتبرؤون منه الآن، ويرونه سبباً لنكبتنا وتخلفنا، وليتنا ظللنا كما كنا.
لا أدري لماذا لم ينشيء «التكوينيون» مركزاً للعلوم، هدفه العمل على اللحاق بحضارة العالم التي تنظر إلينا من فوق المريخ، أو لاستشراف المستقبل الذي لا نعرفه ولا يعرفنا، ولماذا لا يتحلون بنفس الجرأة في مناقشة قضايانا الآنية؟.
لماذا لم ينظموا ندوة أو فعالية عن «غزة» المستباحة، أو يفندوا مزاعم إسرائيل التي يكتشف العالم زيفها اليوم، وكانت فرصة ذهبية لبداية مثالية لفضح أباطيل المحتل المغتصب للعالم .. لماذا الإسلام ولماذا التراث؟.
في تصريح له، خلال برنامجه «حديث القاهرة»، قال إبراهيم عيسى إن الفكر السلفي خطر كبير على أي دولة، وبالاعتماد عليه نفقد قوة العمل، وأنه يضرب الاقتصاد ويهدم مفاصل الدولة بأكملها، وقال: كل ما يدعو إليه الفكر السلفي يعد تحطيما للاقتصاد المصري.
وتحدث عن فرعونية مصر، وكيف أن تعريب المصريين تحول في النهاية لتمصير العرب، وغيرها من «الخزعبلات» التي تعد ذاتها نفخاً في النار وصباً للزيت عليها، ولا ندري أي سلف يقصدهم بالضبط، وهل يعني بهم الإخوان الذين لفظهم المصريون جميعاً، بما فيهم أزهرهم، أم كل من يعتد بالتراث، أم صنف آخر لا نعرفه؟.
يقود الحديث عن التراث هؤلاء دوماً للحديث عن السنّة وعن البخاري ومسلم، ورفض ذلك كما يريد هؤلاء أو بعضه، هو مقدمة لما هو أعظم وأنكى، فمن حملوا إلينا «السنّة النبوية» هم أنفسهم من حملوا إلينا القرآن .. هم من حفظوه وكتبوه، والطعن في هؤلاء سيدفعنا إلى الهاوية.
يقيني أنه لا مجال لقبول هؤلاء تحت أي مسمى، والأزهر الذي يؤرقهم، أولى بالاتباع من بحيري وعيسى وناعوت .. أَوْلى بالاتباع من «تكوين»، الذي بدأ مريباً بشخوصه وأهدافه ومراميه، وحتى باسمه «تكوين» .. تُرى من أين جاء الاسم وما دلالة الاسم .. أهدافه المعلنة لا يناسبها «تكوين»، ربما كان يناسبها «وعي» أو «فكر جديد» أو «لنبدأ» أو أي أية كلمة لها علاقة بأهدافهم التي أعلنوا عنها، لكن «تكوين»، لم أجد لفظة، يمكن أن تتكيء عليها سوى «سِفر التكوين» !!!