مقالات

نبيل فكري .. يكتب: الكرة .. وصناعة التفاهة !

– «العبث» ليس صدفة ولا مجرد تصرفات فردية .. إنه نظام يمتد إلى مختلف المؤسسات والهيئات والجامعات وكل تفاصيل المعرفة

الرياضة ليست أبداً ذلك الذي ترى .. في النهاية أنت جالس أمام التليفزيون «مأنتخ .. مقلبظ .. بتنهج وانت قاعد»

أزمة استشراء التفاهة أنها مع الوقت تزيل في طريقها كل القيم ..  وتنكر الثوابت بانفلات الفرد الذي يرفض أي وصاية

حتى تصبح مرغوبة أكثر وناجحة أكثر وحتى تنتصر .. ينتصر أصحابها ويجنون الملايين دون أي مهارات أو قدرات

شجعوا ولكن اعملوا.. حفِّلوا ولكن بحب وبأدب وصداقة .. شاهدوا مباراة ثم عودوا للحياة .. البسوا فانيلة النادي وأيضاً «أفرول المصنع»

قبل أن تقولوا: أنت كذا، أو كذا

أقر وأعترف: لا يعنيني كذا .. ولا كذا

لا الزمالك ولا الأهلي ولا الإسماعيلي ولا الاتحاد ولا المصري ولا أي ناد آخر.. بمعنى: لا تعنيني تلك النعرات التي قد تفرق بين الأخ وأخيه، والصديق وصديقه.

لا يعنيني إلا المنتخب، عندها .. يعنيني النشيد والعلم والوطن

لا يعنيني إلا الناس

إلا البشر

إلا قيمة أو نصف قيمة

إلا معنى أو بقية من معنى

طفل مريض أجدى بالاهتمام وبالدعاء، ورجل يجاهد في تلك الحياة، أهم عندي من بطل أوروبا وإفريقيا معاً

لست ملاكاً، لكني أجاهد كي لا أكون شيطاناً

أجاهد كي أعود إلى الطريق

وقبل أن تقولوا: كيف تكتب ما تكتب بعدما حققه الأهلي من إنجاز بفوزه بالبطولة الحادية عشرة في دوري أبطال إفريقيا؟

أقول: إنه إنجاز يفخر به كل مصري، والأهلي مثل «أهرامات» مصر، يمثل رافداً من روافد القوى الناعمة التي نفاخر بها وتمنحنا ثقلاً خارجياً على الصعيد الرياضي بالطبع، وأعمل طوال مسيرتي المهنية ناقداً رياضيا، وأعلم قيمة هذا الإنجاز، وقيمة الأهلي الذي أقر وأعترف أيضاً أنه أفضل مؤسسة رياضية في الشرق الأوسط.

لكن هذا ليس موضوعنا، وإن كان موضوعنا!.

منذ أيام، وبالتزامن مع عيد «الحادية عشرة» المبارك، وفي جلسة معتادة على المقهى، تجاذب صديقان أطراف الحديث عن الأهلي والزمالك، ثم تلاسنا وتلاحنا، وأرعدا وأزبدا، وانتهى السجال بأن تجاوز أحدهما على الآخر، أو تجاوزا معاً، أو هكذا ظننا، على «كام يمين» على «كام شتيمة وسب» للنادي المنافس.

منذ أيام، كنت أقرأ «بوست» لابن ابن عمي الذي لم تُبكِه نتيجته في الثانوية العامة، ولا التحاقه بالكلية التي لا يحب، ولا أجرؤ أن أرسله في شراء غرض ما، ولا أن نلومه لأنه «راحت عليه نومة» ولم «يصلي الجمعة». ابن ابن عمي، كتب في البوست يقول: «وراك يا أهلي أنا كعب داير .. زي نسر الأهلي طاير»، مرفقاً بالبوست صورته في مدرجات ستاد القاهرة البعيدة عن بيته 200 كيلو متر، منفقاً 300 أو 500 جنيه لزوم السفر، ربما اقترضها، وربما لم يشتري كتب الكلية حتى انتهى العام الدراسي.

وكتب غيره زملكاوية مثل هذا الكلام، و«سنظل أوفياء» و«حبك يجري في دمانا»، ويغنون بمناسبة وبدون مناسبة «التالتة شمال .. بتهز جبال» ولم نر يوماً جبلاً اهتز، ولا يهتز حولنا منذ زمن إلا «أوساط» الراقصات.

ومنذ عدة أيام، موعد مباراة الأهلي مع الوداد، نزلت من بيتي على قرع الطبول الإفريقية في الشارع والهتافات تدوي، وقت صلاة العشاء: «فريق كبير .. فريق عظيم .. أديله عمره وبرضو قليل»،  وابتهال إلى السماء، حين حمى الوطيس، كي ترفع عن «الأهلي» البلاء وأن تستجيب للرجاء، وتمنحه الفوز بالأميرة السمراء، .. ووالله .. تا الله .. ما سمعنا تلبية عيد الفطر ولا عيد الأضحى في الشوارع، كما سمعنا الهتاف للزمالك أو للأهلي .. للأهلي أو الزمالك، رغم أن التلبية في العيدين سُنَّة، مستحبة في المنازل والطرقات والأسواق، وانظروا إلى حالنا هذه الأيام، وهي أيام التلبية المطلقة، وأتحداك لو سمعت من يلبي.

لست متزمتا، ولا «مستشيخاً» ولا منضبطاً تماماً، وإن كنت أرجو، لكني أب، يشغله ما يحدث لأبنائه وأبناء إخوته، ويشغلني أحياناً السؤال: إلى أين يأخذنا هذا؟.

ستقول، كما يُقال دوماً: فرحة تأتي يوماً أو يومين في العام .. الكرة متنفس الناس .. لا تضيقوا على الناس.

والله لا أفعل، وعن نفسي تأسرني كل مظاهر الحياة، والفرحة والبهجة .. أحب السينما أكثر من الكرة، وأحب الأوبرا وأغاني أم كلثوم والعندليب وعبدالوهاب ومحمد قنديل ونجاة، وأدندن بها في الحمّام، وكثيراً ما أضبط نفسي متلبساً بالغناء وأنا في طريقي للبلد، وأكتشف أنني أغني منذ ربع ساعة مثلاً، فأتوقف بحثاً عن شيء آخر، أوازن به بيني وبين نفسي .. حبة كدة وحبة كده .. شوية فرفشة وشوية جد.

إذن ما المشكلة ؟ .. المشكلة أننا لسنا مخلصون أبداً للجَد، إخلاصنا للتفاهة واللعب، لا يقاس بتحملنا وطأة العمل والجد والمثابرة على نفوسنا .. شتان نحن هنا وهناك .. لدينا استعداد أن نلعب كل يوم ونشجع كل يوم، وليس لدينا استعداد لنعمل في يوم.

زمان، أعتقد أن مباراة الأهلي والزمالك كانت المباراة الرئيسية التي نشاهدها جماعات في بيت أحدنا .. اليوم كل المباريات مهمة، كل مباريات الدوري، وكل مباريات الدوري الإسباني والإنجليزي والإيطالي والألماني والفرنسي، ودوري الأبطال الأوروبي، وبين ظهرانينا مشجعين للريال والبارسا وليفربول ومانشستر يونايتد والسيتي وباريس سان جيرمان وبايرن ميونيخ، وأحدهم على استعداد أن يخسر صديقه من أجل عيون ميسي أو رونالدو أو نيمار أو أي من أولئك الأشرار أو «الأخيار».

لن أتناول ذلك من جانب ديني أو فقهي، فلست متخصصاً، وإن كنت أزهرياً، فالناس لا تحب النصح، لكن أسأل نفسي مثل كل أب: هل أنت راضٍ تماماً عن تلك الطقوس .. هل أنت راض عن هذا الهوس الذي تمثل الكرة واحدة من صوره الألف، في ظل فجوة حقيقية بيننا وبين هذا الجيل الذي لم نعد نعرف كيف نسترضيه أو نسترده، أو ربما هو لم يعد معنا من الأساس.

هناك كاتب كندي اسمه «آلان دونو»، ألف كتاباً بعنوان: «نظام التفاهة»، مبدئياً لم أقرأ الكتاب، لكني سمعت عنه، وقرأت عرضاً له، وقرأت في هذا المعنى.

الرجل يؤكد في كتابه أن تلك التفاهة التي تحيط بنا ليست صدفة ولا عبثاً ولا تصرفات فردية التقت في جماعات أحبتها معاً، لكنه نظام يمتد إلى مختلف المؤسسات في الدول الحديثة، حتى الهيئات البحثية والجامعات والمدارس، وكل تفاصيل المعرفة والاقتصاد والتجارة والسياسة والثقافة والإعلام.

التفاهة باختصار أداة لزيادة رأس المال، وهي منتج مرغوب جداً ولذيذ جداً، كما أنها وسيلة لتعمية الحقائق والتلاعب بها، وتستخدم لغايات سياسية دولية وإقليمية ومحلية، وحتى تصبح مرغوبة أكثر وناجحة أكثر وحتى تنتصر، ينتصر أصحابها، أولئك الذين يجنون الملايين من التفاهة دون أي مهارات أو قدرات .. فقط بصناعة التفاهة.

الكرة تفاهة ؟ .. نعم تفاهة .. مثلها مثل أشياء كثيرة أخذت مساراً آخر .. تسلية .. لعب ومرح ليس أكثر .. أما الرياضة، فهي ليست أبداً ذلك الذي ترى، حتى لو كان اللاعب رياضياً مفتول العضلات، ففي النهاية أنت جالس أمام التليفزيون «مأنتخ .. مقلبظ .. بتنهج وانت قاعد»، تتناول أيضاً الطعام التافه، مقرمشات أو سندويتشات.

أزمة استشراء التفاهة، أنها مع الوقت تزيل في طريقها كل قيمة أو عقيدة تقف حائلاً أمام توغلها، وتنكر في سبيل ذلك، الثوابت والقيم والمباديء والأخلاق، وتنهار الأسرة والمجتمع، بانفلات الفرد الذي يرفض أي وصاية ولو كان دافعها المحبة.

منذ فترة، وأثناء تكريمه كأفضل مدرب، قال الألماني يورجن كلوب مدرب ليفربول في كلمة ألقاها بهذه المناسبة: إن كرة القدم مجرد لعبة ليس إلا، يستمتع بها الناس في نهاية الأسبوع، ولا يمكن أن تضيف شيئاً غير هذا .. لن تحل مشاكل الفقراء ولا اللاجئين ولن توقف الحروب .. نؤدي وظيفة وعلى الناس العودة لحياتهم بمجرد سماع صافرة الحكم.

وبغض النظر عن نسبة هذا الكلام إلى مدرب ليفربول، أو أن الصيغة لم تكن هكذا بالضبط، وأنه ربما قال فقط: إن هناك أشياء أكثر أهمية في العالم من كرة القدم وإنها مجرد لعبة ليس إلا، فالواضح أننا أصبحنا نلعب على الدوام، لم نعد ننتبه للصافرة أو ربما لم تعد هناك صافرة .. نمضي في ملعب العبث مخدرين، أصبحت مثل «الحشيش» أو ربما «الحشيش» أخف.

شجعوا ولكن اعملوا .. حفِّلوا ولكن بحب وبأدب وصداقة .. شاهدوا مباراة ثم عودوا للحياة .. البسوا فانيلة النادي وأيضاً «أفرول المصنع» .. اكتبوا بوستات احتفلوا فيها ولكن لا تسبوا بعضكم .. سيروا وراء ناديكم واملأوا المدرجات، ولكن املأوا المساجد أيضاً أيام الجمعة وفي الصلوات، «هزروا» و«نكتوا» والعبوا وامرحوا، ولكن اجعلوا لكم أوقات جَدٍ أيضاً .. ذاكروا واجتهدوا وروحوا لأصحابكم ولكن لأشياء غير التفاهة .. استمعوا للأغاني الجديدة وحاولوا أيضاً تتعرفوا على القديم «أبو لون ومعنى» .. حاولوا تروحوا «أوبرا» لو تقدروا، و«على فكرة» هناك أوبرا في دمنهور وسعرها رخيص بثمن علبة سجاير .. إياكم أن تفقدوا أهم ما فيكم .. الإنسان .. الدين .. القيم .. إياكم أن تبكوا لفريق كرة في خسارة أو انتصار، واعلموا أنكم «موحدين» لله الواحد القهار.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى