نبيل فكري .. يكتب: جراحة في العين .. لورم في المخ !!
ما أسهل أن تفعل أي شيء في أي وقت، وأن تبرر هذا الشيء أو لا تبرره .. سيَّان.
كل شيء ممكن .. الأمر وعكسه، وما بينه وبين عكسه .. الواجب والمممكن والمستحيل في آن واحد .
لا تمنطق شيئاً ولا تحاول أن تُحكِّم العقل، ويُفَضَّل ألا تسأل .. اصمت واصمت .. اذهب إلى المقهى إن استطعت .. اطلب «شيشة» والعب «طاولة» وقل على الدنيا السلام، وإن راودتك نفسك بالغناء .. فقط غنِّ بالحمَّام.
منذ شهور قليلة، أعلن المجلس الأعلى للجامعات موافقته على مقترح مجلس الوزراء بتعديل سنوات الدراسة في كليات الطب البشري وتخفيضها إلى 5 سنوات بدلاً من 6 سنوات، على أن يكون الامتياز سنتين، وهو أمر رغم وجاهته إلا أنه ليس الأكثر إلحاحا، ولو أبقوها ست سنوات مع سنتي الامتياز لكان أجدى، لوقف هذا التردي الذي أصاب جزءا كبيرا من المهنة، وسط غياب الكفاءات وهرب القامات وفوضى الاستقالات.
جاء في نص المبررات، أن ذلك يأتي مواكبة للتطورات العالمية في مجال دراسة الطب، وأننا كنا على نظام عكس ما يسير عليه العالم، مما تسبب في العديد من الأزمات في منظومة الطب وهجرة الأطباء، وللأمانة حاولت جاهداً – والله – أن أعرف أثر تقليص مدة الدراسة على هجرة الأطباء فلم أستطع، وإن استطاع أحدكم الوصول إلى «تخريجة لولبية» لهذه المبررات «اللوزعية» فليخبرني.
أعقب ذلك، ما سمعناه وما قرأناه عن نتائج كليات الطب لا سيما في جنوب الوادي وفي جامعات الصعيد، وما تلا ذلك من صراخ مسؤولي تلك الكليات الذين عزوا النتائج المتدنية إلى غش الثانوية، الذي ابتلى الكليات بعقول خاوية.
منذ أيام أيضاً، زفت إلينا جامعة القاهرة، بُشرى التعليم العالي، بتقليص عدد سنوات الدراسة في كلية الهندسة إلى 4 سنوات بدلاً من خمس، وفي معرض حديثه عن مبررات ذلك وانعكاساته، قال الدكتور مصطفى رفعت أمين المجلس الأعلى للجامعات، إنه يأتي في صورة الإطار المرجعي الجديد للقطاع الهندسي .. «أخدت بالك» من التبرير الضخم دا: «الإطار المرجعي للقطاع الهندسي» كلام كبير كله عِبَرْ.
وطبعاً في اليوم التالي لهذا القرار، نشبت أزمة بين نقابة المهندسين والمجلس، لأن الأولى أعلنت رفضها لهذا «الإطار المرجعي» لأن مصر – باختصار – فيها حوالي 850 ألف مهندس .. كانوا 820 ألفاً في يناير حسب تصريح الدكتور محمد عبدالغني عضو اللجنة الاستشارية بنقابة المهندسين، والذي أدلى بهذا الكلام لـ «اليوم السابع» في يناير الماضي، وقال أيضاً إن 45 ألفاً ينضمون للكليات والمعاهد الهندسية كل عام .. النقابة أصلاً تشكو من الأعداد وتريد تقليلها .. «قوم إيه» .. نلغي سنة علشان «الإطار المرجعي».
بعض المقالات لا تستطيع أن تبدأها، وبعضُها لا تستطيع أن تنهيها، وهناك موضوعات ليس بإمكانك أن تبدأها ولا تنهيها .. تظل حبيسة صدرك، تراودك ليلاً مثل الكابوس، ونهاراً تلاحقك في الشارع مثل «التروسيكل» و«التوك توك»، والأغاني الهمجية، وكل هذا العبث الذي يملأ الشارع.
بعض الموضوعات ليست إلا تساؤلات: يا ناس .. لمصلحة من ذلك، ومن طلب منكم ذلك، وهل الوظائف في انتظار أولئك الذين تريدون تقليص سنة دراسية لهم؟.
في نهاية العام الماضي، وتحديداً في سبتمبر، كان اجتماع اللجنة العليا للتكليف بوزارة الصحة، والتي انتهت إلى ضوابط جديدة، لتكليف جميع الفئات المخاطبة بالقانون رقم 29 لسنة 1974 .. «هو اسمه كده» ووقتها ثار جدل، حول تكليف الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان والفئات الفنية المساعدة، طبقاً للاحتياجات الواردة من الجهات المذكورة بالقانون اعتباراً من حركة تكليف عام 2025 .. ووقتها أشاد اتحاد نقابات المهن الطبية، وفق المنشور في الوطن بتاريخ الخميس 15 سبتمبر 2022، كما أشاد الخبراء بشأن تقليص مدة الدراسة، كما يشيد أولئك «الجاهزون» دوماً للإشادة، على أي شيء حتى لو كان خلاف العادة.
في فبراير الماضي، نشرت «الواشنطن بوست» تقريراً عن هجرة الأطباء الشباب من مصر، قال فيه أحدهم، إن راتبه في بريطانيا يعادل 40 ضعف راتبه في مصر، وروت طبيبة أخرى كيف أن راتبها في مصر يكفي فقط تكلفة المواصلات والإفطار في المستشفى التي كثيراً ما تبيت فيها.
مؤكد أننا بحاجة إلى أطباء أكثر، لكن علينا أولاً أن نحسِّن أوضاع الموجودين حالياً .. بحاجة أولاً إلى تأهيل المستشفيات، وإلى أن يعمل حتى من يُفترض أنهم يعملون فيها .. لدينا وحدة صحية في قريتي، مُعيَّنٌ فيها قرابة المائتين، لم أرَ أحدهم رؤيا العين للآن، منذ ثلاثين عاماً على الأقل .. احرثوا قبل أن تزرعوا .. احفروا قبل أن تبنوا .. ضعوا العربة أمام الحصان، لا وراءه ولا بجانبه .. لم تكن المشكلة يوماً في الأعداد، لكنها في العبث الذي بات «اعتياد».
في مارس الماضي، قرر الدكتور خالد عبدالغفار وزير الصحة، تشكيل لجنة برئاسته لدراسة تحسين أحوال الأطباء، بعد أن شهد عام 2022 أعلى رقم استقالات للأطباء والطبيبات باستقالة 4261 طبيباً بمعدل يومي 12 طبيباً وطبيبة، وهو الرقم الذي تضاعف 4 مرات عن عام 2016.
المهم أننا لم نعرف بعد ما انتهت إليه هذه اللجنة، لكننا عرفنا قرار مجلس الجامعات بتقليص مدة الدراسة، وهو أمر من وجهة نظري يشبه أن يذهب طبيب لجراح في المخ، يكتشف ورماً في الرأس ليقرر الأطباء بعد ذلك إجراء جراحة في عينيه !!!