صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (43)
المهدي يبايع لولديه الهادي والرشيد
قبل أن نتحدث عن ولاية العهد في خلافة محمد المهدي بن المنصور نتوقف عند بعض مواقف من حياته.
جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي عن عبدالملك الأصمعي أحد أئمة اللغة والشعر قال: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنّى بملائكته فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) آثره بها من بين الرسل إذ خصكم بها من بين الأمم.
قلت:_مازال الكلام للأصمعي _هو أول من قال ذلك في الخطبة وقد استنها الخطباء إلى يومنا هذا.
وقال ابن الأثير في تاريخه: قال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح شديدة أيام المهدي، حتى ظننا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب المهدي، فوجدته واضعًا خده على الأرض وهو يقول: اللهم احفظ محمدًا في أمته، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي، فهذه ناصيتي بين يديك. قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى انكشفت الريح وزال عنا ما كنا فيه.
وذكر أيضًا أن الربيع بن يونس حاجب المهدي قال: رأيت المهدي يصلي في بهو له (قاعة واسعة) في ليلة مقمرة، فما أدري أهو أحسن أم البهو أم القمر أم ثيابه، فقرأ قول الله عز وجل (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم).
قال: فتمم صلاته ثم التفت وقال: يا ربيع، قلت: لبيك، قال : عليّ بموسى؛ فقلت في نفسي: من موسى هل هو ابنه أم موسي بن جعفرالعلوي وكان محبوسًا عندي فجعلت أفكر فقلت: ما هو إلا موسي بن جعفر فأحضرته فقطع صلاته ثم قال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية فخفت أن أكون قد قطعت رحمك فوثّق لي أنك لا تخرج علي، قال: نعم فوثّق له فخلاه.
وفي تاريخ ابن كثير أنه دخل علي المهدي رجل يوما ومعه نعل فقال: هذه نعل رسول الله ﷺقد أهديتها لك.
فقال المهدي : هاتها، فناوله إياها، فقبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة آلاف درهم.
فلما انصرف الرجل قال المهدي: والله إني لأعلم أن رسول الله ﷺلم ير هذه النعل، فضلا عن أن يلبسها، ولكن لو رددته لذهب يقول للناس: أهديت إليه نعل رسول الله ﷺفردها عليَّ، فتصدقه الناس، لأن العامة تميل إلى أمثالها، ومن شأنهم نصر الضعيف على القوي وإن كان ظالما، فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم، ورأينا هذا أرجح وأصلح.
ورغم أن المهدي عندما تولي الخلافة لم يكن قد تجاوز الثالثة والثلاثين من عمره إلا أنه كان متعجلا بشأن ولاية العهد، ذلك الصداع الذي لا يغادر رؤوس الملوك مهما دفعوا من أثمان بعد ذلك .
وكان ابن عمه عيسي بن موسي هو ولي عهده بعد أن تأخر عن الخلافة خطوة بسبب الضغوط الرهيبة التي مارسها عليه عمه المنصور، وتحدثنا عنها في الحلقات الماضية، ولما أصبح عيسي ولي ولي عهد تعرض لسخرية أهل الكوفة وقالوا : هذا الذي كان غدا فأصبح بعد غد!
لكنه لم يصبح بعد غد فقد كان شيخا علي مشارف الستين عندما تولي المهدي الخلافة ( كان عيسي في السادسة والخمسين من عمره وقتها وكان يكبر محمد المهدي بـ 23 سنة ) ومثلما اشتري المنصور ولاية العهد بالمال فعل نفس الشيء ابنه محمد المهدي فتنازل عيسي عن ولاية العهد للمرة الثانية مقابل 10 ملايين درهم، وعقارات بمدينتي الزاب وكسكر.
و جعل المهدي ولاية العهد في ولديه موسي وهارون، ولقب موسي بالهادي، وهارون بالرشيد، وكان قد أنجبهما من جاريته الخيزران التي هام بها حبا فأعتقها بعد أن أنجبت ولديه موسي وهارون وتزوجها، وكانت عاقلة أديبة ذات رأي ودهاء.
وكان أبو جعفرالمنصور قد حذر ابنه من أن يدخل النساء في شئون الملك والسلطان ثم قال له في وصية طويلة : وأظنك ستفعل .. وهو ماحدث بالفعل ، فالمنصور الخبير بالرجال كان أعرف الناس أيضا بشخصية ابنه وأنه سيضعف أمام الخيزران التي كانت رائدة تدخل النساء في الملك في العهد العباسي.
ولأن المهدي لم يكن في هيبة أبيه المنصور وجبروته وبعد نظره ، فقد أصبح أهل الحل والعقد يخطبون ود الخيزران زوجة الخليفة وأم الخلفاء بعد ذلك، ولم يكن المهدي يشعر بالحرج لأنه يحبها ولأنه ليس مثل أبيه المنصور.
لكن في أواخر أيام المهدي أراد أن يخلع موسي الهادي من ولاية العهد، لماذا ؟وماذا حدث بعد ذلك ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .