صلاح رشاد .. يكتب: الفضل بن الربيع .. يتجاهل وصية هارون الرشيد !!
بدأ طائر الموت يحلق فوق رأس الرشيد، أعظم ملوك الدنيا في زمنه واسترجع شريط حياته الملوكية التي ربما شعر أنها مرت في غمضة عين وانه لم يهنأ بها ويستمتع بها .
23 عاما قضاها الرشيد يزلزل الأرض باسمه الرنان وملكه الواسع .. فكان ينظر الي السحابة وهو في قصره المنيف ويقول لها أمطري أمطري ففي أي مكان سيأتيني خراجك .. ذهب الملك والسلطان والاسم الرنان وبقي هارون العبد الضعيف الذي يقترب من لقاء سيده ومولاه يرجو رحمته ويخشي عذابه.
وفي لحظات النهاية يتضرع هارون الي ربه خائفا وجلا ويقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.
يالها من جملة مؤثرة وكلمات معبرة .. آه لو كان الحكام والملوك والسلاطين يعملون حساب هذا اليوم وهذه اللحظة، لمااقترفوا ذنوبا تجعلهم في حسرة وخسران بعد فوات الأوان.
وفي مدينة طوس مات الرشيد وهو في الخامسة والأربعين من عمره ودفن هناك وصدق توقعه بقرب موته بعد موت أخيه من الرضاعة وضحيته، الفضل بن يحيي البرمكي، فلم يفصل بينهما في الموت سوي بضعة شهور ليقفا أمام الله مثلما سيقف الجميع أمام الله عبيدا أذلاء لا حول لهم ولا قوة ولا ظهر ولا سند.. لن ينفعهم المال والسلطان، ولن يحميهم الملك والصولجان، فهم في النهاية عبيد عادوا إلي سيدهم عبيدا مثلما جاءوا إلي الدنيا عبيدا، لكن غرتهم السلطة فأنستهم الموت حتي إذا باغتهم قالوا «ما أغني عني ماليه * هلك عني سلطانية ».. الآيتان 28 و29 من سورة الحاقة”.
ونزل موت الرشيد بردا وسلاما علي بكر بن المعتمر رجل الأمين الذي أرسله برسائل إلي كل كبار قواد أبيه، ورغم أن وصية هارون الرشيد لوزيره وحاجبه الفضل بن الربيع كانت واضحة لا لبس فيها ولا غموض لأنها كانت أمرا من الرشيد بمواصلة المسير بالجيش حتي مدينة مرو التي يعيش فيها المأمون ليكون الجيش في تصرفه وتحت خدمته، إلا أن الفضل ضرب عرض الحائط بوصية الرشيد، وقال : لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا أعرف ما الله قاض فيه.
يا سبحان الله بين عشية وضحاها أصبحت وصايا الرشيد وأوامره التي كانت تنفذ في التو واللحظة وبدون مراجعة، أصبحت لاقيمة لها!!.
يجبرنا هذا المشهد علي أن نعود إلي مشهد آخر في عهد الرشيد، وبالتحديد عام 187 هجريا، عندما جاءه كتاب فيه عجرفة واستهانة من ملك الروم جاء في البداية والنهاية للإمام ابن كثير قال فيه: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرُّخِّ، وأقامت نفسها مكان البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنتَ حقيقًا بحمل أضعافها إليها، لكنَّ ذلك لضعفُ النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وَافْتَدِ نفسك بما تقع به المصادرة لك، وإلاَّ فالسيف بيننا وبينك.
فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزَّه الغضب، حتى لم يقدر أحدٌ أن ينظر إليه وتفرَّق عنه جلساؤه من كبار رجال دولته ولم يتحملوا غضبه، فدعا بدواة، وكتب على ظهر الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام».
وخرج «هارون» بنفسه في عام187 هـ ، حتى وصل هرقلة وهي مدينة بالقرب من القسطنطينية، واضطر «نقفور» إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الخليفة كما كانت تفعل «إيريني» من قبل، ولكنه نقض المعاهدة سريعا، فعاد «الرشيد» إلى قتاله عام 188هـ وهزمه هزيمة منكرة، وقتل من جيشه أربعين ألفا، وجُرح نقفور.
لكن الرشيد الذي يخشي اسمه وبأسه المشارق والمغارب، مات فلم تعد لوصيته معني أوقيمة !!
وهكذا هم عبيد السلطة يلتفون حول سيدهم وهو حي، فإذا مات التفوا حول السيد الجديد ونسوا تماما هيبة ومكانة الميت، وشعارهم “مات الملك ، عاش الملك” .
لذلك اتجه عقل وقلب الثعلب الماكر الفضل بن الربيع إلي سيده وخليفته الجديد محمد الأمين، أما وصية الرشيد فلم تعد تساوي شيئا، فصاحبها قد مات وترك الدنيا بما عليها .
وأما عبد الله المأمون فهو ولي عهد وليس الرجل الأول وليس في مقدوره أن يفعل شيئا للفضل .. وقد رأينا كيف كان حال الرشيد في عهد أخيه الهادي وكيف تجنبه الناس ولم يعودوا يلقون عليه السلام إرضاء للهادي عندما غضب علي أخيه.
وعاد معظم الجيش إلى بغداد مع الفضل بن الربيع الذي أراد أن يدعم موقفه ويكسب أرضا جديدة عند الخليفة الجديد محمد الأمين، ولم يعد مع المأمون إلا أقل القليل وكان منهم القائد الوفي هرثمة بن أعين.
وترك هذا الموقف حسرة وألما في قلب المأمون.
فكيف تعامل مع هذا الموقف الذي ينبئ بشر مستطير له في قادم الأيام؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .