صلاح رشاد .. يكتب: الدولة العباسية .. بعد هارون الرشيد
رغم البداية السيئة من جانب الفضل بن الربيع وضربه عرض الحائط بوصية هارون الرشيد، إلا أن الأمور بين الأخوين محمد الأمين وعبدالله المأمون بعد وفاة أبيهما مباشرة كانت طيبة، فقد سارع الأمين بإرسال كتاب تعزية لأخيه المأمون شرح فيه أيضا سياسة حكمه والدور الذي سيقوم به المأمون في المرحلة المقبلة، جاءت تفاصيل هذا الكتاب في تاريخ الطبري.
قال الأمين في كتابه :إذا ورد عليك كتاب أخيك أعاذه ﷲ من فقدك، فعز بنفسك بما عزاك ﷲ بـه وأعلـم أن ﷲ جل ثناؤه قد اختار لأمير المؤمنين الرشيد أفضل الدارين، وأجزل الحظين فقبضه ﷲ طاهراﹰ زاكياﹰ، قـد شكر سعيه وغفر ذنبه إن شاء ﷲ، فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم والناظر لأخيه، ونفـسه وسلطانه وعامة المسلمين، وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يحـبط الأجـر ويعقـب الـوزر وصلوات ﷲ على أمير المؤمنين حياً وميتاً، و«إنا ﷲ وإنا إليه راجعون».
ومضى الكتاب: وخذ البيعة عمن قبلك من قوادك وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم ابن أمير المؤمنين على الـشريطة التي جعلها لك أمير المؤمنين من نسخها له وإثباتها، فإنك مقلد من ذاك مـا قلـدك ﷲ وخليفتـه واعلم من قبلك رأيي في صلاحهم وسد خلتهم والتوسعة عليهم فمن أنكرته عند بيعته، أو اتهمته على طاعته فابعث إلي برأسه مع خبره، وإياك وإقالته فإن النار أولى به.
أضاف الكتاب: واكتـب إلـى عمـال ثغورك وأمراء أجنادك بما طرقك من المصيبة بموت أمير المؤمنين الرشيد، ومرهم أن يأخذوا البيعة على أجنادهم وخواصهم وعوامهم على مثل ما أمرتك به مـن أخذها على من قبلك وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم والقوة على عدوهم وأعلمهـم أنـي متفقـد حالاتهم وموسع عليهم، ولتكن كتبك إليهم كتبـاﹰ عامة لتقرأ عليهم، فإن في ذلك ما يسكنهم ويبسط أملهم، وإن أخاك يعرف صحة رأيك، وبعد نظرك، وهو يستحفظ ﷲ لك ويسأله أن يشد بك عضده ويجمع بك أمره إنه لطيف لما يشاء.
وكتب أيضا الأمين كتابا إلي أخيه صالح، جاءت تفاصيله أيضا في تاريخ الإمام الطبري، جاء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوع ما قد سبق في علم الله ونفذ من قضائه في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فقل: ” كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ “، فاحمدوا الله ما صار إليه أمير المؤمنين الرشيد من عظيم ثوابه ومرافقه أنبيائه، صلوات الله عليهم، وإِنَّا لله وإنا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمة نبيه محمد صلي الله عليه وسلم، وقد كان لهم عصمة وكهفا، وبهم رءوفا رحيما، فشمر في أمرك، وخذ البيعة على من قبلك من ولد أمير المؤمنين وأهل بيته ومواليه وخاصته وعامته لمحمد أمير المؤمنين، ثم لعبد الله بن أمير المؤمنين، ثم للقاسم بْن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين الرشيد صلوات الله عليه، فإن السعادة واليمن في الأخذ بعهده، والمضي على مناهجه وأعلم من قبلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم، ورد مظالمهم وتفقد حالاتهم، وأداء أرزاقهم وأعطياتهم عليهم، فإن شغب شاغب، أو نعر ناعر، فاسط به سطوة تجعله نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خلفها وموعظه للمتقين، واضمم الى الميمون بن الميمون الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وخدمه وأهله، ومره بالمسير معهم فيمن معه من جنده ورابطته، وصير إلى عبد الله بْن مالك أمر العسكر، فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند العامة، ومره بالجد والتيقظ وتقديم الحزم في أمره كله، فإن أهل العداوة والنفاق لهذا السلطان يغتنمون مثل حلول هذه المصيبة، وصير مقدمتك إلى أسد بْن يزيد بْن مزيد، وساقتك إلى يحيى بْن معاذ، فيمن معه من الجنود.
وإياك أن تنفذ رأيا أو تبرم أمرا إلا برأي شيخك وبقية آبائك الفضل بْن الربيع، وأقرر جميع الخدم على ما في أيديهم من الأموال والسلاح والخزائن وغير ذلك.
وقد أوصيت بكر بْن المعتمر بما سيبلغكه، واعمل في ذلك بقدر ما تشاهد وترى، وإن أمرت لأهل العسكر بعطاء أو رزق، فليكن الفضل بْن الربيع المتولي لإعطائهم على دواوين يتخذها لنفسه، بمحضر من أصحاب الدواوين، فإن الفضل بْن الربيع لم يزل يتقلد مثل ذلك لمهمات الأمور.
كتابا الأمين لأخويه المأمون وصالح يكشفان أمرين مهمين، أنه سيكون حريصا علي عهد أبيهم وسيسير علي نهجه، والأمر الآخر ثقته الكاملة بالفضل بن الربيع وأنه سيكون له المكانة العظمي في خلافة محمد الأمين.
وهذا الفضل – لا سامحه الله – لم يستغل هذه المنزلة في رفعة الدولة وتنقية الأجواء بين أبناء الرشيد إذا حدث ما يعكر الصفو بينهم، بل استغلها في تطويع الأمين لمصالحه الشخصية، وبدا الخليفة الصغير الجديد وكأنه عجينة يشكلها الفضل بن الربيع كيفما شاء، وسنري في الحلقات المقبلة إن شاء الله كيف كان هذا الثعلب الماكر وبالا ليس فقط علي أبناء الرشيد بل علي دولة بني العباس كلها.